هاجر العبيدي.. أول فارسة في الأنبار تمنح النساء الحرية على صهوة الخيل

المنصة – فاطمة كريم
في قلب الأنبار حيث تمتد الصحاري الواسعة ويعلو صهيل الخيول في الأفق، تقف هاجر شامخةً كفارسة تخط طريقها بعزيمةٍ نادرة بمرونةٍ معتادة، تقفز إلى السرج ثم تنطلق و الريح تداعب وجهها، لكنها لا تشعر بها، كل تركيزها على سرعة الحصان وانسجام خطواته فكلما تضغط بكعبيها قليلًا يندفع الجواد بقوة، كأنه يعرف مقصدها قبل أن تطلب.
هاجر العبيدي سيدة في الثلاثين من عمرها تسكن في محافظة الأنبار غرب العراق في قضاء هيت، حصلت على شهادة البكالوريوس في الإعلام، لكن شغفها في ممارسة رياضة ركوب الخيل كان أكبر حيث يطلق عليها سكان مدينتها لقب “الفارسة” وذلك بعدما أصبحت اول امرأة خيالة مدربة في محافظة الأنبار.
تقول هاجر “بدأت رحلتي في حب الخيل منذ الصغر عندما كنت أشاهد مسابقات على التلفاز ومنذ ذلك الحين كلما كبرت عاما ازداد شغفي في امتلاك الخيول، لكن كنت أخشى الرفض من قبل المجتمع”.
رحلة النساء العراقيات في عالم الفروسية ليست سهلة اذ يواجهن تحديات اجتماعية تتعلق برفض الكثير من العائلات ان تدخل بناتهن في هذا المضمار، لكن الفكرة بدأت تشهد قبولا في العامين الماضيين في بغداد وبعض المدن الأخرى ومنها الانبار.
في طفولتها كانت تتابع بذهول سباقات الفروسية، تشاهد الفرسان وهم يقودون الخيول بثقة، تعيش اللحظة بكل حواسها وكأنها واحدة منهم. لكن بين شغفها بتلك المشاهد وواقعها في محافظةٍ لا تضم أي مراكز تدريب بدا هناك فجوة كبيرة تعيق تحقيق حلمها.
تستذكر هاجر طفولتها بابتسامه تملئها الفخر، قائلة “كنتُ أراقبهم بشغف، أتابع كل حركة، كل قفزة، وأتخيل نفسي هناك، حتى وصل الحال إلى اخذ دورات تدريبية على الإنترنت في كيفية التعامل وتربية الخيول رغم عدم امتلاكها لاي حصان في ذلك الوقت لكنها سرعان ما واجهت الحقيقة: لا وجود لمكان تتدرب فيه، ولا أحد يتقبل فكرة أن تحلم فتاةٌ في الأنبار بأن تصبح فارسة.
وتتسم محافظة الانبار بطابعها العشائري حيث مازالت الأعراف والتقاليد السائدة تلعب دورا في تحجيم دور النساء وحصرهن في ميادين محددة، والخروج على هذه اللائحة الاجتماعية غالبا مايعرض النساء للانتقاد اللاذع لكن يبدو ان هاجر أصرت على تحقيق حلمها الذي تمسكت به حتى أصبح واقعا اليوم، فهي أول فارسة ومدربة فروسية في المدينة تدرب الشباب والفتيات على ركوب الخيول، وتفتح الأبواب التي ظلت مغلقة لعقود فيها.
تقول هاجر “بسبب طابع المجتمع العشائري الذي يرفض هكذا ممارسات للمرأة ويراها محتكرة على الرجال فقط، لكن بدعم عائلتي المستمر ومساعدتهم لي تمكنت من تأسيس مكاني الخاص وشراء الخيول وممارسة هوايتي التي طالما حلمت بها”.
نجحت هاجر في كسر القواعد المجتمعية وممارستها هوايتها في ركوب الخيل، وذاع صيتها في المنطقة حينها وعمل لها تقرير على إحدى الوكالات الصحفية وكانت هنا نقطة انطلاقتها كأول مدربة للخيول في محافظة الأنبار، تقول هاجر” بعد نشر مقابلتي على مواقع التواصل كانت هناك ردود فعل ورسائل كثيرة تصلني من قبل النساء، كن يشجعنني ويطلبن مني تدريبهن”.
بإصرارٍ لا يعرف التراجع، أسست الفارسة الأولى في الانبار أول مكانٍ خاص بالفروسية في محافظها، لتصبح رائدةً في هذا المجال. “كان شعورًا لا يوصف عندما دخلت أول فتاة إلى النادي، نظرتُ إليها ورأيتُ نفسي قبل سنوات، لكن هذه المرة، كنتُ أنا من تمسك بيدها لتساعدها على امتطاء الحصان”، تقول هاجر بفخر.
في ساحة التدريب تقف السيدة الانبارية بثبات اليوم وعيناها تتابعان كل التفاصيل في حركات طلابها، صوتها الحازم يختلط بصهيل الخيول وهي ترتدي سترة الفروسية، يديها تمسكان بلجام أحد الخيول حيث تصطف مجموعة من الفتيات والفتيان، بعضهم يعتلي ظهر الجواد لأول مرة، والبعض الآخر في مراحل متقدمة من التدريب، أعينهم تحمل مزيجا من الحماس والخوف، تقترب هاجر من إحدى الفتيات، تمسح على عنق الحصان لتهدئته، ثم تقول بصوتٍ دافئ: “لا تفكري بالخوف الحصان يشعر بكِ إن كنتِ واثقةً بنفسكِ، سيثق بكِ أيضًا”
تشير بيدها إلى أحد الفتيان ليحاول السيطرة على حصانه، لكنه يتردد، تبتسم هاجر، تسير نحوه، تضع يدها على اللجام وتشرح له: “انظر إلى الأمام، حافظ على توازنك، لا تشدّ اللجام كثيرًا، دعه يشعر أنك قائده، لا سجّانه” وبمجرد أن يطبّق التعليمات، يتحرك الحصان بسلاسة، فتلمع عينا الصبي بحماس، كأنه اكتشف سرا جديدا.
وعندما تبدأ المجموعة بالتحرك تصفق هاجر وتشجعهم: “أحسنتم الآن انطلقوا، اشعروا بالحرية، وكأنكم تطيرون.”، تنظر إليهم بفخر تعلم أن كل خطوة يخطونها ليست مجرد تدريب على الفروسية، بل تدريب على الثقة والقوة وكسر القيود التي ظنوا أنها لا تُكسر.
وعن تجربتها في تدريب الفتيات والفتيان على الفروسية بنبرةٍ تحمل الفخر والملاحظة الدقيقة تقول: “النساء يتعلمن أسرع من الرجال، ربما لأنهن أكثر صبرا وتركيزا، كما أنهن ملتزمات بمواعيد التدريب ولا يتهاونّ في الحضور”.
وتضيف بابتسامة وهي تمسح على عنق حصانها: “الخيول أيضا تشعر بهذا الفرق، فهي أقرب إلى النساء، ربما لأن عاطفة المرأة أقوى وقدرتها على التواصل الهادئ أكبر. الحصان يحتاج إلى الشعور بالأمان والاهتمام وهذا ما تمنحه النساء له بسهولة.”
ثم تتابع وهي تراقب إحدى الفتيات التي تمضي جوادها بثقة لأول مرة: “الخوف الأولي لدى النساء يتبدد سريعًا عندما يشعرن بالارتباط مع الحصان، بينما الرجال غالبا ما يحاولون فرض السيطرة مباشرة، وهذا يجعل الأمر أصعب في بعض الأحيان”.
وشهدت رياضة الفروسية في العراق تقلبات عدة في السنوات الماضية لكن اندية الخيل عادت مجددا لاستقبال الشباب والشابات من محبي الرياضة من خلال تنظيم سباقات وفعاليات عامة، ومن اشهر تلك الأماكن نادي الفروسية في الجادرية وسط مدينة بغداد اذ يوجد في العراق قرابة عشرين ناديا للفروسية.
لم يكن الطريق سهلاً، فالتقاليد والأفكار السائدة كانت عقبةً أخرى، لكن النجاح كان أقوى من أي عائق وتقول “عندما ارى الناس يتغيرون ويأتي الآباء اليوم لتسجيل بناتهم أدرك أن ما فعلته لم يكن مجرد حلم شخصي، بل خطوة نحو تغيير حقيقي”.
بعيونٍ تلمع بالحماس تتحدث هاجر العبيدي عن علاقتها بالخيل وكأنها تحكي قصة عشقٍ أزلية، فتقول: “الخيل قصة عشق لا تنتهي، ولن تنتهي أبدًا. منذ اللحظة التي لامستُ فيها أول حصان، عرفتُ أن هذا الشغف سيبقى معي طوال حياتي”.
اليوم أصبحت هاجر تعلم متدربيها كيف يثقون بأنفسهم قبل أن يثقوا بخيولهم، فهي تعلم جيدا أنها لم تروض الجياد فحسب، بل روضت الخوف والتقاليد والتحديات التي حاولت أن تمنعها من الوصول إلى ما أصبحت عليه.
هاجر التي كسرت القوالب التقليدية وأصبحت أول امرأة تدرب الفروسية في الأنبار لا ترى نفسها مجرد مدربة، بل صاحبة رسالةٍ تسعى لنقلها إلى أكبر عدد ممكن من النساء “لن أتوقف هنا وسأواصل شغفي وحلمي حتى يصبح لدي أكثر من ساحة تدريب، أريد أن أعلم أكبر عدد من النساء، وأن أمنحهن فرصة تحقيق الحلم الذي صنعته من مراقبتي لشاشات التلفاز”.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)