بأدوات بسيطة وحلم كبير.. الحاج محمد يصوغ التاريخ من الكارتون المهمل

مهدي غريب – بغداد

في أحد أزقة بغداد القديمة، حيث تحتفظ الجدران بحكايات أجيال مضت، يواصل الحاج محمد أبو رشا، الرجل الستيني، رحلته اليومية. وسط ضجيج المدينة وغبارها الخانق، استوقفته فكرة غير عادية، أن ما يلقى في القمامة ويحرق في الأزقة يمكن أن يتحول إلى رمز للحياة والذاكرة. لم يكن هذا مجرد خيال عابر بالنسبة له، بل إيمان راسخ قاده إلى تحويل فكرته إلى واقع، مُثبتًا أن الفن قادر على حفظ التاريخ وحماية البيئة في آن واحد.

في أيام جائحة فيروس كورونا، حينما توقفت الحياة وأُغلقت الأسواق والمقاهي، وجد الحاج محمد نفسه يراقب المشهد اليومي المعتاد. أكوام من الكارتون التالف تتراكم، تُحمل إلى مكبّات النفايات أو تُحرق في الساحات العامة، ناشرةً سحبا سوداء من الدخان السام.

وبينما كان الجميع منشغل بتحديات الجائحة، كان هو يفكر: لماذا نهدر كل هذا الكارتون بينما يمكن أن نعيد استخدامه؟ 

بدأ الحاج محمد بجمع القطع المبعثرة في الأسواق والساحات والشوارع. يقول: “لم يكن الأمر سهلا، فقد كان البعض ينظر إلي باستغراب، لكنني كنت اعلم أنني على وشك تحويل النفايات إلى كنوز”.

بأدوات بسيطة، بدأ الحاج محمد بتحويل الكارتون الممزق إلى مجسمات تنبض بالحياة، لم تكن مجرد أعمال فنية، بل كانت انعكاسا لذاكرة العراقيين: سينما سمير أميس، وسينما الخيام، وساحة التحرير، وأماكن أخرى شكلت وجدان العراق. كل قطعة كان ينحتها بعناية، وكأنها رسالة ضد ثقافة الاستهلاك والإهمال البيئي.

يضيف ابو رشا: “لم يكن هدفي فقط إعادة تدوير الكارتون، بل اريد توجيه أنظار الناس إلى أهمية الحفاظ على البيئة وتقليل التلوث، ففي بلد يعاني من تراكم النفايات وغياب برامج التدوير الفعالة، اريد أن تكون اعمالي دعوة إلى التغيير”.

لطالما كانت مشكلة حرق النفايات في بغداد واحدة من أكبر المخاطر البيئية، فالدخان المنبعث من الكارتون المحترق يحتوي على مواد كيميائية سامة، تؤثر على صحة السكان، وتزيد من تلوث الهواء، مما يفاقم الأزمات الصحية في المدينة.

الحاج ابو رشا كان شاهداً على هذا التأثير، يؤكد: “كنت ألاحظ تزايد أمراض الجهاز التنفسي بين الناس، خاصة الأطفال وكبار السن. ومن هنا، قررت أن يكون مشروعي ليس مجرد فن معاد تدويره، بل دعوة لحماية البيئة”.

مع ازدياد اهتمام الناس بنتاجاته، قرر الحاج أبو محمد افتتاح بوث صغير في مبنى القشلة، يعرض فيه أعماله الفنية، ويتحدث إلى الزوار عن أهمية إعادة التدوير. لم يكن مجرد مكان للبيع، بل كان منصة لنشر التوعية حول المخاطر البيئية لحرق النفايات، وأهمية إعادة التدوير، واصبح يجذب ليس فقط المهتمين بالفن، بل ايضا المهتمين بالبيئة، والطلاب الذين يبحثون عن افكار لمشاريع مستدامة.

يقول الحاج: “اخترت القشلة لأنها مكان تاريخي في قلب بغداد، حيث يلتقي الناس من مختلف الفئات والأعمار. كنت أريد أن يكون للمكان دور يتجاوز كونه معرضا فنيا، بل أن يكون نقطة حوار وتوعية حول أهمية الحفاظ على البيئة”. 

ويضيف: “أصبحت أستقبل يوميا أشخاصا فضوليين يسألون عن المجسمات، وأبدأ بإخبارهم كيف كانت هذه القطع مجرد نفايات مهملة قبل أن تتحول إلى أعمال تحمل قيمة تراثية وبيئية”.

كنت ألاحظ تزايد أمراض الجهاز التنفسي بين الناس، فقررت أن يكون مشروعي ليس مجرد فن معاد تدويره، بل دعوة لحماية البيئة

مع مرور الوقت، بدأ الزوار يتفاعلون مع الفكرة، فالبعض كان يعرض مساعدته في جمع الكارتون، وآخرون بدأوا يسألون عن كيفية إعادة التدوير في منازلهم. كما زار المعرض طلاب جامعيون وباحثون بيئيون مهتمون بالاستدامة، وطرحوا أفكارا عن سبل تطوير المشروع ليشمل ورش عمل تفاعلية لتعليم إعادة التدوير للأطفال والشباب.

يطمح الحاج محمد إلى توسيع نشاطه داخل القشلة وخارجها، حيث يتمنى أن يتمكن من تنظيم فعاليات شهرية مخصصة لزيادة وعي المجتمع حول أهمية إدارة النفايات بطريقة مستدامة. كما يأمل في أن يصبح المعرض نموذجا تحتذي به المدن الأخرى، ليكون بمثابة رسالة واضحة بأن الفن والبيئة يمكن أن يلتقيا في مشروع واحد يحمل أثرا إيجابيا على المجتمع.

يستطرد الحاج محمد كلامه بتعجب وكأنه تذكر شيئا مهما: “المفارقة أن أغلب زبائني كانوا من العراقيين المغتربين، الذين رأوا في أعمالي جسرا يربطهم بذكريات الوطن. حسب قولهم، لكن رغم هذا النجاح، لا ازال اواجه تحديات كثيرة، أهمها غياب الدعم الحكومي”.

يحلم ابو رشا بمشروع أكبر، وهو أن يحصل على دعم رسمي يمكنه من توسيع مبادرته، وتحويل أطنان الكارتون المرمية إلى أعمال فنية، أو حتى مواد قابلة لإعادة الاستخدام.

ويقول: “إن إعادة التدوير ليست ترفا، بل حاجة ملحّة. ففي بلد مثل العراق، حيث ترتفع درجات الحرارة ويزداد التلوث، فإن إيجاد حلول بيئية مبتكرة أصبح ضرورة وليس مجرد خيار”. 

ويكمل: “إعادة التدوير ليست فقط وسيلة للتقليل من النفايات، بل هي أسلوب حياة يضمن مستقبلا أنظف وأكثر صحة للأجيال القادمة. لا يمكننا أن نستمر في التعامل مع النفايات على أنها شيء يمكن التخلص منه بسهولة، لأن آثارها البيئية والصحية باتت تهدد حياتنا جميعا”.

ويتابع: “ان المخلفات التي تُلقى عشوائيا أو تُحرق تتسبب في تلوث الهواء والمياه والتربة، مما يؤدي إلى زيادة الأمراض وانتشار الأوبئة. من خلال إعادة التدوير، يمكننا تقليل النفايات، وإنتاج مواد جديدة بأساليب مستدامة، وتحويل المخلفات إلى موارد اقتصادية مفيدة بدلاً من أن تكون عبئا بيئيا”.

ويؤكد الحاج محمد أن المسؤولية لا تقع على الجهات الحكومية فقط، بل على كل فرد في المجتمع: “يجب أن نبدأ بتغيير سلوكياتنا اليومية، فكل خطوة صغيرة نحو إعادة التدوير يمكن أن تحدث فرقا كبيرا. سواء كان ذلك عبر فرز النفايات في المنازل، أو دعم المشاريع التي تعيد استخدام المخلفات، أو حتى التوعية بأهمية هذا الأمر بين الأصدقاء والعائلة.”

ويضيف بحماس: “امنيتي أن أرى برامج تعليمية في المدارس تُعلّم الأطفال قيمة إعادة التدوير، حتى ينشأ جيل يدرك أهمية الحفاظ على البيئة. كما أتمنى أن توفر الحكومة دعما حقيقيا لهذه المبادرات، من خلال إنشاء مصانع تدوير وتشجيع رواد الأعمال على استثمار في هذا المجال.” ويأمل الحاج احمد، أن يعيد المجتمع تدوير أفكاره أيضا، لينظر إلى النفايات ليس كعبء، بل كفرصة.

بين يديه التي اعتادت تشكيل المجسمات، وبين ذاكرته التي لا تزال تحتفظ بتفاصيل بغداد القديمة، يمضي الحاج محمد ابو رشا في رحلته، مؤمنا أن كل ما يُرمى اليوم قد يصبح كنزا غدا، وأن الفن ليس مجرد تعبير عن الجمال، بل يمكن أن يكون وسيلة للحفاظ على البيئة وإعادة إحياء الأماكن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى