بازة التقاطعات.. تجارة تصمد في وجه التغييرات

بغداد- أحمد محمد

الهواء البارد يتسلل بين السيارات المتوقفة عند الإشارة الضوئية، يعبر الشارع فيلسع وجوه المارة في بغداد. عند ساحة الفردوس، يتنقل مرتضى سامي بخفة بين السيارات، يلوّح بقطعة قماش نظيفة، ينفضها في الهواء ليجذب أنظار سائقي السيارات في الزحام. يضع يديه في جيوبه للحظات ليدفئهما، ثم يعاود نداءه المعتاد: “بازة… نظيفة بازة!”.

لم يتجاوز مرتضى الثامنة عشرة، لكنه يعرف جيدًا كيف يتعامل مع الشارع. منذ سبع سنوات وهو يبيع البازة عند التقاطعات، متنقلًا بين الشورجة، باب المعظم، والكرادة. يخرج من منزله في الزعفرانية قبل أن تشرق الشمس، حاملاً قطع البازة على كتفه، ويعود مع الظهيرة محاولًا جني ما يكفي لتغطية مصاريف عائلته.

“ما دخلت مدرسة، لكن علمت نفسي القراءة والكتابة من الموبايل”، يقول بابتسامة ثابتة، “أهم شي إخوتي يدرسون… وأنا أشتغل حتى أوفّر لهم مصاريفهم” يقول مرتضى.

لكن العمل في الشوارع شاق، خاصة في الشتاء. في الأيام الباردة، يتجمد الهواء في رئتيه وهو ينادي على بضاعته، وتصبح حركة السيارات أبطأ، ما يمنحه وقتًا أطول لإقناع الزبائن، لكنه يعني أيضًا أن البيع قد يكون أقل. “الشتاء صعب، بس أحسن من الصيف.. على الأقل ما تذوب من الحر”.

تبدأ الرحلة من سوق البالة في الكاظمية، حيث يشتري مرتضى حزمة شراشف مستعملة يجلبها التجار غالبًا من فنادق أوروبية. تحتوي الحزمة على 30 إلى 40 شرشفًا، ويختلف سعرها حسب النوع والحجم، لكنه كان سابقًا لا يتجاوز 75 ألف دينار، بينما اليوم قد يصل إلى 125 ألفًا بسبب ارتفاع أسعار البضائع مع تغير سعر الدولار.

مو كل الشرطة ضدنا، بعضهم نعرفهم بالأسماء. مرات يشربون شاي ويغادرون، ومرات ياخذون بازة هدية

بعد الشراء، يعود بها إلى المنزل، يغسلها جيدًا، ثم يستخدم مقصًا حادًا لتقطيعها إلى أحجام مناسبة على شكل مستطيل. طول القطعة متر، وعرضها نصف متر. يجمعها لتكون 30 قطعة لبيعها عند التقاطعات. يبيع القطعة الواحدة بسعر يتراوح بين 1000 و1500 دينار، حسب جودتها. يجني يوميًا في الغالب 25 ألف دينار، وزبائنه الرئيسيون هم سائقي سيارات الأجرة، وأصحاب المحال الصناعية، والمطاعم. يزورهم كل أسبوع ليتفقد حاجتهم إلى بازاته.

على مدى سنوات، ظهرت مهن عديدة في التقاطعات، ثم اختفت تدريجيًا، لكن بيع البازة بقي مستمرًا. بعد رفع السيطرات الأمنية من شوارع بغداد، تغيرت خارطة الباعة الجوالين، لكن باعة البازة ظلوا صامدين، لأن الطلب على منتجهم لم ينخفض، بل ربما ازداد مع تزايد الأعمال التي تحتاج إلى القماش لتنظيف المعدات والسيارات.

ومع ذلك، فإن المهنة تواجه تحديات، أبرزها تأثير سعر الدولار على السوق. يقول جبار مصعب، بائع في ساحة الطيران: “قبل كنا نشتري الحزمة بـ70 ألف، هسه صارت توصل 120 ألف، لأن كل شي صار أغلى”. ارتفاع الأسعار لم يمنع استمرار المهنة، فالناس بحاجة إلى البازة، لكن الربح أصبح أقل، ما يضطر الباعة إلى بيع كميات أكبر لتعويض الفارق.

رغم أن الشرطة تلاحق باعة البازة في التقاطعات، إلا أن بعضهم يجدون طرقًا مبتكرة لتجنب المشاكل. يقول جبار وهو يضحك: “مو كل الشرطة ضدنا، بعضهم نعرفهم بالأسماء. مرات يشربون شاي ويغادرون، ومرات ياخذون بازة هدية”.

يحكي أنه في إحدى المرات، أوقفه شرطي وسأله بجدية: “ها جبار اليوم شتقدم؟”، فردّ عليه سريعًا: “عندنا عرض خاص، بازة واجيبلك احلى شاي ببلاش!” فضحك الشرطي وتركه يكمل يومه. بعض الباعة يحاولون التفاهم، وآخرون يختفون لحظة اقتراب الدورية، لكن في النهاية، تبقى اللعبة مستمرة: “إحنا نركض، هم يركضون، وأحيانًا نلتقي عالشاي”.

وسام علي، رجل في الثانية والثلاثين، ترك العمل في المطاعم واتجه إلى بيع البازة والمناشف الخاصة بالسيارات. رغم أنه يعتبر العمل في التقاطعات “ذلّة”، لكنه يفضل حرية التحرك على أن يكون تحت إمرة صاحب عمل لا يقدّر جهده. “هنا تعبي لنفسي، أبيع قد ما أقدر، وأروح للبيت وأنا مطمئن”.

يبيع وسام يوميًا نحو 20 قطعة بازة و12 منشفة، بالكاد تكفي لتغطية الإيجار والمصاريف اليومية. لكنه، على عكس بعض زملائه، لا يطمح للسفر أو تغيير المهنة، بل حلمه بسيط: منزل صغير يحمي أسرته من الإيجار الذي يستهلك معظم دخله.

يختلف مرتضى، جبار، ووسام في تفاصيل حياتهم، لكنهم يتشابهون في معركتهم اليومية لكسب الرزق. هم جزء من المشهد اليومي لشوارع بغداد، يقفون تحت الهواء البارد، يلوّحون بقطع القماش بحثًا عن زبون جديد.

في نهاية اليوم، يعود مرتضى إلى منزله، يعدّ ما كسبه، ثم يخطط للغد. لا مجال للتراجع، ولا وقت للشكوى، فالحياة تمضي، وهو يعرف أن البرد سيخف، وأن الإشارات الضوئية ستستمر في التبدّل، تمامًا كما يستمر هو في الكفاح، قطعة قماش في يده، وأمل في قلبه.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى