في ذي قار.. “رابطة النخوة” تُطفئ نيران النزاعات العشائرية

مرتضى الحدود- ذي قار
في أقصى جنوب العراق يجد الناس أنفسهم في مواجهة تحديات اجتماعية وصراعات عشائرية قد تبدو أسبابها بسيطة في البداية، لكنها سرعان ما تتفاقم مهددةً بالتحول إلى فتن ومواجهات قد تؤدي إلى إراقة الدماء.
في ظل هذا الواقع برزت مجموعة من رجال ووجهاء محافظة ذي قار كرموز للسلام والتكاتف، فقرروا مواجهة هذه الأزمات عبر تأسيس كيان عشائري باسم “رابطة النخوة لسادة وشيوخ محافظة ذي قار”، إيماناً منهم بأن الحلول العشائرية يمكن أن تسند القانون وتعيد للنفوس سلامها، وتخلق فرصة جديدة لتحقيق الاستقرار في المجتمع المحلي.
تسعى الرابطة إلى إعادة بناء جسور التواصل بين أطياف المجتمع، والعمل على تهدئة النفوس المتوترة قبل انفلات الأمور. وبدلاً من الاعتماد فقط على الإجراءات القانونية، التي قد تستغرق وقتاً طويلاً، اختارت الرابطة الاعتماد على الحلول العشائرية التقليدية التي تستند إلى حكماء وعقلاء المجتمع المحلي للتوسط بين الأطراف المتنازعة.
في قاعة كبيرة في قضاء سوق الشيوخ جنوب الناصرية، جلس رئيس الرابطة الشيخ حيدر الشمري وسط جمع غفير من الوجهاء وشيوخ العشائر ليتحدث عن مسيرة الرابطة التي أسسها مع عدد من أبرز شيوخ المحافظة.
يقول الشيخ الشمري بصوت هادئ: “وجدت من الضروري إيجاد حل سريع للنزاعات التي أصبحت تربك الحياة المجتمعية داخل القرى والأرياف، بل وصلت أحياناً إلى مراكز المدن، وهو ما يعطي انطباعاً سلبياً عن دور العشائر التي عُرفت تاريخياً بتحمل المسؤولية الاجتماعية منذ عشرات السنين”.
وأضاف الشمري أنه وبعد سلسلة من اللقاءات والنقاشات مع نخبة من شيوخ العشائر والوجهاء، تقرر إنشاء هذه الرابطة في آذار 2023، لتضم أكثر من 360 عضواً من شيوخ العشائر والسادة والوجهاء، إضافة إلى متخصصين في القانون لضمان تقديم الاستشارات القانونية اللازمة عند الضرورة.
وأكد الشيخ الشمري أن الرابطة نجحت خلال فترة قصيرة في تحقيق نتائج إيجابية واضحة؛ إذ تمكنت بين عامي 2023 و2024 من إنهاء أكثر من 1000 قضية عشائرية، وذلك بفضل سرعة تحرك أعضائها وانتشارهم في عموم أقضية ونواحي ذي قار، مما مكّنهم من التدخل السريع لمنع تفاقم المشكلات. يقول الشمري: “إذا دعت الحاجة لمضاعفة الجهود، فنحن نستمر في العمل لمنع إراقة الدماء ووأد الفتن التي يتسبب بها أحياناً مراهقون لا يعيرون أدنى قيمة للدم”.
العمل في مجال الصلح العشائري ليس بالأمر السهل، فكل قرار قد يؤثر في حياة عائلات تربطها علاقات دم والتزامات معقدة. إلا أن ما يعزز نجاح هذه المبادرات هو الطابع المجتمعي والتعاون الكبير مع الجهات الرسمية. ووفقاً للشيخ الشمري، فإن التعاون مع السلطات ساعد في تجنب اشتباكات مسلحة عدة وتسوية النزاعات دون الحاجة لتدخل القوات الأمنية بشكل مباشر.
من جانبه، أكد مدير شؤون العشائر في محافظة ذي قار، التابعة لوزارة الداخلية، العميد قاسم السعيدي، أن عدد النزاعات العشائرية التي شهدتها المحافظة خلال عام 2024 تجاوز الـ120 نزاعاً، حُسم أكثر من 95 منها بفضل التعاون بين الجهات الأمنية والعشائر. كما شهد عام 2023 وقوع أكثر من 150 نزاعاً، تم حل عدد كبير منها، ما يعكس الوعي المتزايد لدى العشائر بأهمية تبني الأساليب السلمية لحل الخلافات.
بدوره، يشدد سالم صالح، أحد الوجهاء البارزين في “رابطة النخوة”، على أهمية الدور الذي تلعبه الرابطة في تعزيز التعاون بين العشائر وحل النزاعات، قائلاً: “من خلال هذا التجمع يمكننا إعادة الحق إلى من تم الاعتداء عليه وإنهاء المشكلات سريعاً وبفعالية، حيث نسعى دائماً لإيجاد الحلول قبل أن تتفاقم الأمور”. ويضيف صالح أنه رغم أهمية الدور العشائري، فإن التعاون والتكاتف مع الدولة وفرض القانون هو الضمان الحقيقي لاستقرار المجتمع، مبيناً أن القانون يجب أن يبقى الفاصل في حسم الكثير من الأمور، مع الحفاظ على خصوصية المجتمع واحترام تقاليده.
من الناحية القانونية، يشير رئيس اللجنة القانونية في الرابطة، المحامي عقيل فاضل، إلى أن الرابطة تعمل على توعية أفراد المجتمع بشأن القضايا القانونية المرتبطة بالأفعال العشائرية، مثل “الدكة العشائرية”، و”النهوة” و”الكوامة”، وجميعها جرائم يعاقب عليها القانون. يقول فاضل: “نسعى قدر الإمكان إلى توعية المجتمع بأن هذه الأفعال لها تبعات قانونية واضحة، لكي نحد من تكرارها مستقبلاً”.
وبفضل هذه الجهود، تمكنت مديرية شؤون العشائر في المحافظة، بالتعاون مع الرابطة، من إنجاز أكثر من 300 محضر صلح رسمي وإرسالها إلى محكمة الاستئناف، مما أسهم في الإفراج عن محكومين وموقوفين وفقاً لقانون العفو. ومن أبرز تلك القضايا التي جرت تسويتها، نزاع عشائري امتد لنحو عشرين عاماً، ما أسهم بشكل كبير في تحقيق الاستقرار الاجتماعي في المحافظة.
بهذه الجهود تبقى “رابطة النخوة” نموذجاً مهماً في استخدام الحلول العشائرية المدعومة بالقانون، لتعيد الأمل في قدرة المجتمع العراقي على تجاوز تحدياته الاجتماعية بطرق سلمية، وبناء مستقبل تسوده قيم التعاون والسلام.