“خبز الصبر”.. المرأة التي تطعم الوزراء ولا يسألها أحد كيف حالك

فاطمة كريم – بغداد

في أحد أزقة الجادرية ببغداد، حيث تمتزج رائحة الطين برائحة الخبز الطازج، تجلس أم مصطفى عند تنورها المشتعل منذ الفجر وحولها أكوام من العجين. يداها المتشققتان، اللتان أنهكهما العجن والنار لا تتوقفان عن العمل. بعض الألواح المعدنية القديمة تشكل سقفًا هشاً يحتمي به تنورها البسيط من المطر والحرّ.

قبل ستة سنوات، تغيرت حياة أم محمد ذات الـ 43 عاماً رأساً على عقب، عندما ألقي القبض على زوجها، تاركاً خلفه خمسة أبناء ومسؤوليات لا تحصى. “يومها لم أجد من يعيلنا، بكيت كثيرا، لكنني قلت لنفسي: البكاء لن يطعم أطفالي”، تتحدث وهي تنفض بقايا الطحين عن يديها.

لم يكن لديها مصدر دخل، ولم تكن تملك شهادات أو مهارات مهنية، لكن ما كانت تجيده هو الخَبز. بجهدها وحدها، جمعت قليلاً من المال واشترت تنوراً مستعملاً، ثم بدأت تصنع الخبز وتبيعه لجيرانها في شارع الوزاراء في الجادرية. مع الوقت، كبرت دائرة زبائنها وباتت تزود المحال الصغيرة والمطاعم في المنطقة.

تقول ام محمد ” أستيقظ قبل الفجر، أجهز العجين، وأشعل التنور بينما أطفالي لا يزالون نائمين وابقى اعمل في تجهيز الطلبات وفي احيان كثيرة استمر إلى المساء في الخبز”.

على امتداد هذا الشارع، حيث تصطف الفلل الفاخرة وتتجول المواكب السوداء المظللة، تجلس أم محمد قرب تنورها، تراقب السيارات الفارهة وهي تمر بسرعة، متجهة إلى مكاتبها أو قصورها، دون أن يتوقف أحد ليسألها عن حالها. كل يوم، يشهد الشارع مرور عشرات الوزراء وكبار المسؤولين، رجال ببدلات أنيقة وربطات عنق لامعة، يتحدثون عن أوضاع البلد من خلف زجاج سياراتهم العازل، بينما على بعد أمتار قليلة، تواصل أم محمد عجن الطحين، بيديها المتشققتين من التعب، محاولة أن تحافظ على لقمة عيشها.

المفارقة المؤلمة أن خبز أم محمد يجد طريقه إلى موائد هؤلاء المسؤولين، تقول “يوميا يأتون حمايات ويقولون ان المسؤولين يطلبون خبزك بالذات ولا يأكلون من مكان آخر غيرك”.

تكمل حديثها وهي تقلب الأرغفة فوق جمر التنور: “يأكلون من خبزي، لكنهم لا يعرفون من صنعه. تمر مواكبهم من هنا يوميًا، لكن لا أحد يلتفت إلى المرأة التي وقفت في الشمس والمطر كي لا يجوع أطفالها. ليتهم سألوا مرة واحدة: هل لديك سقف يحميك؟”.

لم يكن لأم محمد بيت تملكه، بل كانت تعيش في منزل منحها إياه أحد المحسنين، لكن اليوم، يطلب صاحبه بيعه، وعليها أن تجد مأوى جديدًا. المشكلة ليست فقط في السكن، بل في أن مشروعها الذي أسسته بصبر وعناء مهدد أيضاً، “إن خرجت من هنا، سأفقد عملي، زبائني هنا، الناس تعرفني، لا يمكنني البدء من جديد في مكان آخر”، تقول بصوت يخنقه القلق.

تحاول البحث عن حل، لكن أسعار الإيجارات ترهقها، فهي بالكاد توفر مصاريف أبنائها الخمسة. “دخلي محدود والأسعار هنا باهضه جدا لا أعلم ماذا اتصرف انا على وشك أن اخسر عملي و منزلي “، تضيف وهي تمسح جبينها من العرق.

رغم هذه الظروف القاسية، ترفض أم محمد الاستسلام، بل تؤمن بأن العمل هو خلاصها الوحيد.  “عملي هو شرف و هو الذي يعيلني على الصحاب أريد فقط أن أعمل، أريد أن أعلّم بناتي وأجعل أولادي يكبرون بكرامة”.

إلى جانبها، ابنتها سارة، وهي في العشرينات من عمرها، تضع يديها في العجين، تدلكه بحرص، تمامًا كما تفعل أمها منذ سنوات، وكأنها تحاول أن تخفف عنها ولو جزءًا من الحمل الذي أرهق جسدها.

رغم أن سارة متزوجة ولها حياتها الخاصة، إلا أنها لا تترك والدتها تواجه هذا العمل الشاق وحدها، خصوصًا بعد أن بدأت صحة أم محمد تتدهور بسبب سنوات من الوقوف الطويل أمام التنور، تقول سارة “أحاول أن أساعدها أنا وزوجي قدر المستطاع، نأتي لهم في أوقات فراغنا زوجي يبيع الخبز للزبائن وأنا أخبز معها”.

في وجه سارة، يرى الجميع انعكاس أمها  تلك الشجاعة ذاتها، ذلك الصبر الذي التصق باليدين، تلك النظرة التي لا تعرف الانكسار، كلها امتدت إليها وكأن أم محمد لم تخبز فقط الأرغفة، بل خبزت معها شخصية ابنتها تعرف أن الحب الحقيقي ليس بالكلام، بل بأن تمسك بيد أمها المتعبة، وتواصل الطريق معها حتى النهاية.

ابو علي رجل في 54 من عمره، عند كل مساء، عندما تبدأ الشمس بالغروب خلف أبنية بغداد يأتي  في سيارته القديمة عند زاوية الشارع، متوجهاً نحو التنور المشتعل، ومنذ عامين، لم يشتر الخبز إلا من يدي أم محمد .

“هذه المرأة ليست بائعة خبز فقط، إنها مثال للصبر والشرف”، يقول وهو يمد يده ليلتقط الأرغفة الساخنة التي اعتاد على مذاقها. يعرفها منذ سنتين، كان يراها كل يوم وهي واقفة أمام التنور، تتصبب عرقًا في الصيف، وترتعش من البرد في الشتاء، لكنها لم تشتكِ يومًا، لم تطلب المساعدة، فقط كانت تعمل بصمت، وكأنها تخوض معركتها وحيدة.

أبو علي ليس مجرد زبون عابر، بل صار جزءًا من هذا المشهد اليومي. حين يصل، يبدأ بالحديث مع أم محمد وسارة، يطمئن عليهما، يستمع إلى همومهما، ويبث فيهما كلمات تشبه البلسم في قسوة الأيام. “أنتِ امرأة عظيمة، كثيرون يرفعون شعارات دعم النساء، لكنكِ أنتِ من تمثلين القوة الحقيقية”، يقول لها كل مرة، وكأن كلماته تمنحها دفعة أخرى للصمود.

مع اقتراب الليل، يهدأ الشارع قليلًا، تنخفض حرارة التنور شيئًا فشيئًا، تجلس ام محمد على كرسيها الخشبي المتآكل، تمسح جبهتها بطرف عباءتها، وتنظر إلى آخر الأرغفة الساخنة التي خرجت من نار، بجانبها سارة تضع بقايا العجين في وعاء، وزوجها يعد بعض الحسابات، قبل أن تدخل إلى بيتها، تنظر إلى السماء لوهلة، كأنها  تستمد منها قوة، تعلم أن الغد لن يكون أسهل، وأن التحديات لم تنته لكنها أيضًا تعلم أن العمل والكفاح هو مصدر قوتها.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى