تلوث اشعاعي ام زواج الأقارب…امراض خفية تصيب نساء قرية شمال ذي قار

 

ذي قار – مرتضى الحدود

في شمال محافظة ذي قار وعلى بعد 12 كيلو متر من قضاء الشطرة تقع قرية “آل ملال” وهي قرية صغيرة حيرت كثرة الامراض التي تصيب النساء والأطفال فيها الأطباء ودائرة الصحة في محافظة ذي قار.

السرطان والشلل الرباعي وضمور الدماغ وغيرها هي من أبرز الامراض التي تنتشر في القرية منذ سنوات، والنساء هناك يسرن ببطء يحملن فوق أكتافهن هموما بسبب الامراض التي اصابتهن او التي اصابت اطفالهن، هؤلاء النسوة لسن حالة نادرة… بل هن وجوه مختلفة لحكاية واحدة تتكرر في كل بيت من بيوت هذه القرية المنسية.

في حسينية بسيطة تتوسط القرية وتمثل مكانا لتجمع الاهالي في المناسبات المفرحة والحزينة تجلس نغم قاسم وهي امرأة خمسينية تحاول ترتيب ملابسها قبل أن تبدأ بالحديث معتقدة بوجود كاميرا للتصويرقبل ان تكتشف ان الحديث سيكون شفويا فتتكئ على الحائط.

ترتجف إحدى عيني السيدة بلا توقف وينحرف فمها نحو اليمين وكأن الألم قرر أن يترك توقيعه على تفاصيل وجهها ومن خلفها تعالت صرخات أطفال معاقين او مرضى جاءوا مع ذويهم الى المكان كأنها انعكاس لصراخ القرية كلها.

تقول نغم  “لا أعرف كيف اصبت بالمرض فجأة أصبح فمي يميل جانبا، وجفن عيني يغلق ويفتح بشكل متأخر عن الجفن الاخر ليكتشف الطبيب لاحقا بوجود ورم خبيث في دماغي تسبب في تغيير ملامح وجهي بهذا الشكل”.

تروي نغم كيف بدأت رحلتها مع المرض قبل سنوات وكيف تنقلت بين الأطباء، حتى انتهى بها المطاف إلى البصرة لإجراء تداخل جراحي معقد لاستئصال الورم، الجراحة نجحت بالفعل لكنها لم تُنهِ الكابوس بل كانت تلك لحظة البداية فحسب.

“أخبروني بأن الورم سرطاني وهو امر محير لي فلم يصب أي احد من عائلتي من قبل بهذا المرض، ولست وحدي فهناك عشرات النساء من قريتنا أصبن بالمرض ذاته بعد 2003 بسبب مخلفات الحرب التي بقيت قريبة من قريتنا واستخدمنا بعضها في تشييد منازلنا.

بدأت حكاية هذه القرية ونسائها مع الامراض حينما سقطت صواريخ الجيش الاميركي على أطرافها عندما كانت تقصف القوات العراقية المنسحبة من مواقعها قرب المنطقة عام 2003 اثناء الغزو الأميركي للعراق إذ خلَف القصف معادن غريبة وبقايا اسلحة جمعها الأهالي وصنعوا منها مناجل لقطع الاعشاب ومساند لسقوف الغرف فادخلوا بهذه الخطوة امراضا جديدة الى بيوتهم لم يعرفوها من قبل.

مديرعام دائرة حماية وتحسين البيئة في الجنوب الدكتور محسن عزيز أكد ان نتائج الفحوصات البيئية التي أُجريت في قرية آل ملال شمال محافظة ذي قار بعد تصاعد حالات الإصابات العصبية والتشوهات الخلقية بين الأطفال واصابة النساء بأمراض سرطانية لم تظهر اية مؤشرات على وجود نسب اشعاعية.

العينات التي اخذت من القرية شملت التربة والمياه في محيط المكان، مع التركيز على احتمالية وجود ملوّثات إشعاعية أو كيميائية مرتبطة بآثار الحروب أو مخلفات عسكرية قديمة إلا أن النتائج بحسب عزيز كانت سالبة، معتقدا ان الحالات المرضية تعود إلى عوامل وراثية ناجمة عن الزواج المتكرر بين الأقارب داخل مجتمع القرية، مما أدى إلى تكرار الصفات الجينية وانتقالها عبر الأجيال”.

هذا التصريح يفتح باباً واسعاً للنقاش بين من يطالب بإعادة الفحص والتوسع في البحث عن أسباب أخرى، خصوصاً مع شهادات سكان القرية حول مخلفات حربية استخدمت سابقاً في البناء والزراعة، وبين من يقرّ بخطورة ظاهرة زواج الأقارب في المجتمعات الريفية وضرورة التوعية الصحية والجينية، لكن نغم لا تصدق مثل غيرها من سكان القرية ما يقوله المسؤولون.

وتقول تحولت قريتنا إلى “منطقة خضراء مصغرة لكثرة زيارات المسؤولين والنواب لها وتقديمهم الوعود التي لا تنفذ ويقولون لنا انهم سيساعدوننا لكن بعد مدة يعلنون ان قريتنا غير ملوثة وان مشكلة امراضنا سببها زواج الأقارب، نحن نتزوج من اقاربنا منذ مئآت السنين فلماذا لم تظهر تلك الامراض لدينا الا بعد الحرب”.

بدعم من أحد أبناء القرية حصلت نغم على راتب الرعاية الاجتماعية، بما يساوي 180 دولارا وهو بالكاد يغطي بعض نفقات العلاج لكنه “أحسن من لا شيء” كما تقول.

وفي الزاوية المقابلة لنغم تجلس امرأة أخرى دخلت الجامع وهي تدفع طفلتها التي لم تتجاوز ربيعها الثالث عشر بعربة خاصة بذوي الإعاقة قالت ان اسمها زينب، كان جسد زينب نحيلا يتشنج من أقل انفعال تتعرض له وكانت تحاول أن تخفي أوجاعها بابتسامات خجولة، لكنها لا تصمد طويلا.

“تحتاج ابنتي الى رعاية دائمة على مدار 24 ساعة ليس فقط لأنها معاقة بل لأنها أنثى وتحتاج اهتمام خاص” تقول بنبرة اتعبها الاجهاد والسهر وتضيف “اضربها أحيانا عندما تبالغ في طلباتها أو تمر بنوبة غضب ثم اشاركها البكاء لقلة حيلتي وندمي على ما فعلت، وكثيرا ما افكر من سيعتني بها اذا غادرت انا الحياة قبلها”

التعاطف مع امرأة تضرب طفلتها المعاقة في لحظة يأس يبدو صعبا لكن مشاعر متضاربة عدة تتصارع بداخل من يرى منظر الام وابنتها التي لم تختار مصيرها وحياتها ولن تتمكن من فعل ذلك يوما.

أم عباس سيدة أخرى من نساء القرية تجاوزت الخمسين من عمرها تعيش جزءا من المعاناة اليومية داخل القرية أصيبت بأمراض عدة آخرها الفشل الكلوي وتواظب على مراجعة الطبيب.

وتقول “كنت اتمتع بصحة جيدة قبل أن تفاجأ بظهور مشكلات صحية حادة مثل ارتفاع ضغط الدم والفشل الكلوي، دون معرفة الأسباب رغم مراجعاتي المستمرة للطبيب، ولكن لم احصل عل اي نتيجة واليوم أصبحت حبيسة المنزل واعتمد على عائلتي لمساعدتي في التحرك وايضا تحملت اعباء مالية كثيرة نتيجة العلاجات وهذا ثقل اضافي”.

الشاب صادق عاشور أحد سكان القرية ويتولى إدارة شؤونها، يتحدث بصوت الغضب والخذلان محاولا وضع النقاط على الحروف، لكنه يغرق في علامات الاستفهام، فهو الآخر لديه طفلان مصابان بالشلل الرباعي.

يقول صادق ان عدد سكان القرية وصل الى 600 شخص وان معظم الامراض العصبية والخبيثة التي ظهرت فيها بدأت عام 2004 وكان أولها ظهور ولادات مشوهة وأطفال مصابين بالشلل الرباعي والتخلف العقلي.

ويضيف “منذ ذلك الحين حتى عام 2015 وحدها سجلنا 29 حالة اما اليوم فوصل عدد المصابين بالسرطان والشلل الدماغي والرباعي وغيرها من الامراض 50 مصابا معظمهم من النساء والأطفال”.

يهزأ عاشور بما تروجه بعض الجهات الصحية في القرية بان زواج الأقارب هو السبب في هذه الامراض ويقول “اذا كان زواج الأقارب هو السبب لماذا لم نسمع عن هذه الامراض منذ عشرات السنين عبر الاباء والامهات والاجداد”. ويضيف “نحن نجري الفحوصات المطلوبة قبل الزواج الا تكشف تلك الفحوصات عن مشكلات جينية”؟

السير لدقائق في قرية آل ملال يكشف صورا غريبة لا نراها في باقي القرى، امرأة ترتدي عباءة سوداء تسير ببطء تعلّق على كتفها الأيسر جسدا صغيرا لطفل مشلول، لا يتحرك لا يصرخ فقط يحدق في السماء وكأنه يسألها “لماذا أنا” واخرى تدفع بعربة حديدية تجلس فيها ابنتها المصابة بإعاقة مزمنة، ووجهها ساكن كأن الروح هجرتها منذ زمن بعيد.

رئيس لجنة الصحة والبيئة في مجلس محافظة ذي قار الدكتور أحمد غني الخفاجي يقول أن عدد الإصابات بمرض السرطان في المحافظة ويتعالجون داخل مؤسساتها الصحية تجاوز ثمانية آلاف حالة وفقا للإحصاءات المسجلة لدى مركز الأمراض السرطانية في المدينة فيما لم يتم تدوين المصابين الذين يعالجون انفسهم خارج المركز لان الكثيرين من المصابين يتعالجون في العاصمة او في مدن عراقية اخرى.

أما مدير مركز الأمراض السرطانية في ذي قار أحمد العبادي أكد في تصريح صحفي، أن الطاقة الاستيعابية للمركز لا تتجاوز 40 سريرا موزعة على أربعة ردهات لإعطاء العلاج الكيمياوي، بالإضافة إلى ردهات مخصصة لمبيت الرجال وأخرى للنساء. وأضاف أن المركز يستقبل يومياً ما بين 80 إلى 120 مريضاً، مما يفرض ضغطاً كبيراً على قدراته العلاجية.

مصدر مسؤول في ذي قار أكد أن العديد من الإصابات السرطانية تتركز شمال المحافظة لافتاً إلى أن ملوثات الهواء الناجمة عن احتراقات حقل الغراف النفطي ساهمت بشكل كبير في تلوث البيئة، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية في المناطق القريبة منه.

في قرية “آل ملال” لا يُقاس الوقت بالساعات بل بعدد الأمراض التي تولد وعدد الأحلام التي تُدفن بصمت قبل أن تُزهر، فمن نغم إلى أم زينب وحتى ام عباس وصولا الى الأطفال المصابين والمتوسدين الاسرة طوال اليوم، تمتد حكاية لا تبحث فقط عن علاج بل عن اعتراف بالوجع والبحث عن عدالة مؤجلة وعن يد تمتد لا لتواسي فقط بل لتغيّر المصير.

 

أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى