مهندسة عراقية تحول نفايات بغداد إلى “حلم أخضر”

فاطمة كريم – بغداد

في مدينة يشتكي أهلها من تراكم النفايات التي تخنق أنفاس شوارعها وأحيائها، قررت مروة النعيمي ألا تشتكي وألا تنتظر حلًا من أحد، بل بادرت بنفسها لتقدّم أنموذجًا مختلفًا يحمل اسم “الذهب الأخضر”.

مروة، مهندسة وناشطة بيئية ورائدة أعمال عراقية تعد من أبرز الوجوه النسائية في مجال البيئة والتنمية المستدامة في العراق، أطلقت أول مشروع من نوعه في البلاد لإعادة تدوير النفايات العضوية وتحويلها إلى أسمدة صديقة للبيئة تحت اسم “الذهب الأخضر للتنمية المستدامة”، يهدف بحسب وصفها إلى “الحد من التلوث، وتعزيز الوعي البيئي لدى فئات المجتمع، خاصة النساء والشباب”.

الطعام لا يرمى.. بل يستثمر

“كمية الطعام الذي نرميه يوميًا تكفي لإطعام مدينة بأكملها”، بهذه العبارة بدأت مروة رحلتها مع البيئة. كانت ذات يوم في مطبخ منزلها، تراقب بقايا الطعام تُلقى في سلة المهملات دون تفكير، فتساءلت: “لماذا نستهين بهذه النفايات؟ لماذا لا نعيد تدويرها بدل أن تكون عبئًا على مدينتنا؟”.

تقدّر منظمة الأغذية والزراعة (FAO) أن نحو ثلث الطعام المنتج عالميًا يُهدر، أي ما يعادل 1.3 مليار طن سنويًا، وهو رقم صادم في عالم يئن تحت وطأة الجوع. أما في العراق، فتشكّل النفايات العضوية ما يقرب من 40% من إجمالي النفايات، ومعظمها بقايا طعام ومخلفات زراعية. 

“عندما تُترك هذه المواد لتتحلل عشوائيًا أو تُحرق، تنتج غاز الميثان، وهو غاز دفيء أقوى بأكثر من 25 مرة من ثاني أكسيد الكربون” توضح مروة، وتضيف أن هذه الكميات الهائلة تهدر معها موارد ضخمة بُذلت في زراعتها وإنتاجها ونقلها، من مياه وطاقة وأراضٍ وأسمدة. من هنا رأت مروة أن لكل بقايا طعام قيمة دفينة، أو بحسب تعبيرها: “نفاياتنا.. ذهبنا الأخضر”.

الملاحظات هذه التي جمعتها مروة عن إهدار النفايات العضوية، سرعان ما تحولت إلى مشروع متكامل تحت اسم “الذهب الأخضر” (Green Gold)، يُعنى بجمع هذه النفايات وتحويلها إلى سماد طبيعي يستخدم في الزراعة المنزلية والمشاريع الصغيرة. 

لم يكن اختيار اسم “الذهب الأخضر” عشوائيًا بالنسبة لهذه السيدة التي تقول: “نحن النساء نحبّ الذهب الأصفر، لكنني عشقت الأخضر، لأن كل ما يقدم اليوم على المائدة هو ذهب أخضر”. وتتابع: “كانت فكرة في مخيلتي، حلمًا صغيرًا يسكنني، وبعد ثلاث سنوات من العمل الدؤوب والإيمان بما أقوم به، أصبح المشروع منتجًا، ويصل إنتاجه اليوم إلى جميع محافظات العراق”.

من فكرة إلى مشروع

بدأت مروة العمل فعليًا عام 2019، بميزانية قدرها مليوني دينار فقط (حوالي 1400 دولاراً أمريكيأً) وذلك بجمع النفايات العضوية من المنازل والمطاعم وبائعي الخضار. وأنشأت المشروع على مساحة ثلاثة دونمات فقط في منطقة الدورة جنوب بغداد ليضم مزرعة ومعملًا ينتج الأسمدة العضوية وكرات الـ GG، وهي كرات صغيرة من السماد تحتوي على شتلات أشجار ونباتات متنوعة. ويعمل في المزرعة والمعمل 11 عاملاً وعاملة والعدد قابل للزيادة في موسم الزراعة خصوصاً بعد أن حقق نجاحًا واسعًا وتناقلت أخباره وسائل الإعلام المحلية. 

ومع تطور المشروع أصبحت مؤسسة “المحطة” وهي مركز لريادة الأعمال في بغداد يدعم الشباب والمبادرات المجتمعية، ومنظمة “سند لبناء السلام” التي تعمل على تعزيز التماسك الاجتماعي، من الشركاء والداعمين الأساسيين له. فتوسعت الفكرة لتشمل برنامجًا تثقيفيًا بعنوان “أصدقاء الكوكب”، يستهدف الأطفال واليافعين، درّبت مروة من خلاله عشرات الفتيات على كيفية فرز النفايات وتصنيع السماد العضوي، لتتحول المبادرة من مشروع فردي إلى نواة حركة بيئية نسوية ناشئة في بغداد.

لم تكن هذه التجربة نتاج جهد فردي فحسب، تقول المهندسة العراقية، بل تبلورت عبر شراكات مع أفراد ومؤسسات آمنوا بالفكرة وساهموا في تطويرها. من بين هؤلاء المهندسة الزراعية شنال، التي عملت على تطوير تركيبات الأسمدة وتجربتها ميدانيًا لضمان جودتها وفعاليتها في تحسين التربة وزيادة الإنتاج الزراعي.

 

فاطمة محمد، المتخصصة في التسويق الاجتماعي، ساعدت بدورها في بناء علامة المشروع التجارية وتطوير المنتجات لتصل إلى أسواق جديدة وتوسّع قاعدة المستهلكين، أما أنس الطائي المتخصص في الطاقة المتجددة، فكان له دور في دمج الطاقة الشمسية ضمن تشغيل معدات التدوير ما خفّض من استهلاك الطاقة التقليدية وعزز من أثر المشروع البيئي.

نفايات العاصمة.. خطر لا يُرى

وفقًا لتقارير أمانة بغداد، تم رفع أكثر من 10.6 مليون طن من النفايات في عام 2019 فقط، بمعدل يومي يقارب 8 آلاف طن، هي أرقام تكشف حجم التحديات البيئية التي تعيشها العاصمة والتي تهدد صحة الإنسان وتوازن النظام البيئي. أما ما يُعرف بـ “الطمر الصحي” المفترض أن يتم وفق معايير مدروسة تمنع تسرّب الغازات والسوائل فلا يُطبّق غالبًا كما يجب بحسب خبراء ومختصين بيئيين، ما يجعل مواقع الطمر بؤرًا لتلويث المياه الجوفية والتربة فضلًا عن انبعاث الروائح الكريهة وتجمّع الحشرات والقوارض.

يقول جليل حسين سلمان، مدير قسم مراقبة وتقييم الأنشطة الصناعية والخدمية في وزارة البيئة: “تنطوي عملية حرق النفايات قرب المناطق السكنية على مخاطر كبيرة بسبب انبعاث مواد مسرطنة بالإضافة إلى أكاسيد الغازات والدقائق التي تؤدي إلى أمراض الجهاز التنفسي والحساسية”. 

ويضيف: “الطمر غير النظامي يحوّل هذه المواقع إلى بيئات خصبة لتكاثر الجراثيم والفيروسات والعوامل المعدية. كما أن جامعي القمامة يتعرضون لمخاطر الإصابة بسبب النفايات الحادة”، مشيراً إلى أن النفايات العضوية تشكّل ما بين 60 إلى 70% من مجمل النفايات الصلبة في العراق، وأن استثمارها وتحويلها إلى سماد عضوي طبيعي لا يخفف فقط من ضررها، بل يوفر موردًا اقتصاديًا بديلًا.

فرصة للبدء من جديد

مع تفاقم التغيرات المناخية في العراق من جفاف الأهوار إلى التصحر في الجنوب، اضطرت العديد من العائلات إلى مغادرة قراها، من بين هؤلاء نساء يحملن خبرات زراعية متجذرة فقدن كل شيء بعد انتقالهن المفاجئ إلى بيئة لا تشبه ما اعتدن عليه. 

تقول مروة: “هؤلاء النسوة هنّ الأكثر تضررًا، ولديهن خبرات زراعية عظيمة لا يجب أن تُهدر. المدينة قد لا تمنحهن فرصًا تشبه ما فقدنه، لذلك بذلت جهدي لتوفير مساحة لهن في مشروعنا”، وتضيف: “نحن لا نوفر لهن عملًا فقط، بل نحاول أن نصنع لهن وطنًا بديلًا لا يقل دفئًا عن قراهن”.

وبالفعل، تحوّل مشروع “الذهب الأخضر” إلى ملاذ آمن لعشرات النساء النازحات اللواتي تدربن فيه وعملن ضمنه، اللواتي ووجدن فيه فرصة لإعادة بناء حياتهن والمساهمة في مشروع بيئي ووطني في آنٍ واحد. تقول مروة بفخر: “أغلب العاملات والمتدربات في المشروع هن نساء، وهذا بحد ذاته إنجاز. نحن لا ننتج سمادًا فقط، بل نزرع وعيًا جديدًا ونبحث عن وسائل لإنقاذ بلدنا وأرضنا قبل فوات الأوان”.

 

أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى