كنيسة السريان في العمارة: أثر مسيحي في زقاق المدينة العتيقة

العمارة- مهدي الساعدي
في زقاق ضيق من أزقة مدينة العمارة، تبرز باحة صغيرة يفصلها عن البيوت القديمة المحيطة جدار منخفض مطلي بالأبيض تعلوه أسياج حديدية. تتوسط الباحة نافورة ماء وتحيط بها الزهور ونباتات الزينة وتمثال للسيدة العذراء وموقد للشموع في مشهد لافت يضفي لمسة مغايرة وحديثة على حيّ تقليدي ما زالت منازله تحتفظ بطابعها المعماري القديم.
حداثة التصميم وعصرنة ديكورات الفناء المفتوح في قلب حي قديم، تكشفان عن حكاية مكان عريق يحتفظ بدلالات التنوع الديني في مدينة جنوب شرقي البلاد عرفت بتعددها، وكان للدور العبادي فيها نصيب من تاريخها.
خلف هذا المشهد تقع كنيسة مار يوسف البتول للسريان الكاثوليك، ثاني كنيسة في المدينة بعد كنيسة “أم الأحزان” للكلدان، في أحد أقدم الأحياء التي عُرفت بتنوعها الديني، والتي سُميت سابقاً بـ”التوراة” وتقع ضمن السوق الكبير، أحد أشهر شوارع العمارة القديمة.
لم تكن كنيسة مار يوسف البتول، أو كنيسة السريان، قبل عام 2022 سوى بيت مغلق. جدارها العالي المبني من الطابوق بطريقة عراقية قديمة تُعرف بـ”جف قيم” يوحي بعراقتها. كانت تسكنها عائلات مسيحية لا تمتلك سكناً، وتتميّز باحتها التي رُصفت ببلاط عراقي قديم يُعرف بـ”الفرشي”، وتحتوي على غرف مظلمة تحمل أسرارًا تاريخية دفينة. ت

حيط الغرف من الداخل قطع مرمر بيضاء منقوشة برموز دينية، مدمجة في الجدران الداخلية للكنيسة والمطلة على الباحة الوسطى، بجوار أبواب قاعة الحرم الكنسي، وتحمل تواريخ وأسماء لعائلات سريانية عاشت في مدينة العمارة، وتوارثتها أجيالها حتى استقرت بها الذاكرة.
يقول الشماس الإنجيلي بطرس عبو، المسؤول عن الكنيسة: “أُعيد إعمار وترميم كنيسة مار يوسف البتول وتجديد بنائها من قِبل أبرشية السريان الكاثوليك، بعد أن تحوّلت إلى مأوى لعوائل مسيحية وأُغلقت أجزاء منها بسبب خطر الانهيار. وتم خلال إعادة الإعمار الحفاظ على جميع الشواهد والمقتنيات والصور التي كانت فيها”.
وأضاف “تشهد الكنيسة زيارات مستمرة من أبناء المدينة للتبرك، وهناك مواقف لا تُنسى، منها زيارة عروسين بملابسهما الرسمية، في مشهد يعكس طيبة أهالي المدينة”.
يفتح الشماس عبو أبواب الكنيسة يومياً للزوار لإشعال الشموع أمام تمثال السيدة العذراء في الباحة، وفق جدول زيارات منتظم، وتشهد الكنيسة حركة دائمة من الأهالي.
وعن تاريخ الكنيسة يقول الكاتب والأديب الميساني عبد الحسين البريسم: “تعد كنيسة مار يوسف البتول واحدة من أقدم الكنائس المسيحية في ميسان والمنطقة الجنوبية عموماً. شُيّدت في مركز مدينة العمارة ويعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر بعد كنيسة أم الأحزان، وتحتوي على لوحات أثرية نفيسة وكذلك على ناقوس حديدي قديم جداً”.

تعود جهود البناء الحالي لكنيسة السريان الكاثوليك إلى أربعينيات القرن الماضي، على يد عائلة رجل الأعمال العراقي الشهير حنا الشيخ. وتظهر آثار تلك الجهود في شاهدة قبره داخل الكنيسة إلى جانب زوجته وابنهما، بالإضافة إلى قبور أخرى تعود لعائلات مسيحية مثل عائلة بني. ومن بين الشواهد قطعة مرمر نُقش عليها: “شُيدت الكنيسة بتبرع من آل حنا الشيخ عام 1940”.
وأكد ممثل الديانة المسيحية في ميسان، جلال دانيال: “البناء الحالي يعود لعام 1940، وقام بتشييده أولاد حنا الشيخ، أما الأرض ووقفيتها المسيحية فتعود إلى عهود قديمة جدًا، تعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وكانت ملكاً لحنا الشيخ وتُدار سابقًا من قِبل وكلائه من عائلة بني”، مضيفاً: “وتدل الشواهد المحفورة على المرمر من أسماء وتواريخ على صحة هذا الكلام”.
حملة ترميم الكنيسة حافظت على بنائها الأصلي، لا سيما الحرم الكنسي، وأبقت على الطراز المعماري وأبوابها الخشبية وزجاجها الملون، وأزالت بعض الأجزاء المتهالكة، وشُيّد مكانها مكتب لرجل الدين وسكن له في الطابق العلوي.

وشهدت الكنيسة في عام 2021 زيارة نادرة من نيافة بطريرك أنطاكيا للسريان الكاثوليك في العالم، مار أغناطيوس يوسف الثالث، برفقة وفد ديني، ورافقتهم وزيرة الهجرة والمهجرين السابقة، إيفان فائق جابرو، وكانت الزيارة الأولى من نوعها لرجل دين مسيحي رفيع إلى كنائس ميسان.
تضم الكنيسة لوحات فنية ومقتنيات أثرية، يُعرض بعضها للزوار داخل الحرم، الذي تزينه المقاعد الخشبية ولوحات دينية، وتحتفظ الكنيسة بصور محفوظة داخل أماكن خاصة، منها صورة للسيدة العذراء كُتب عليها: “كنيسة العمارة السريانية 1928”.
المشهد الحالي لكنيسة مار يوسف البتول يختلف كثيراً عما كانت عليه سابقًا، بفعل الإهمال الذي طالها في سنوات سابقة، وخاصة في قاعتها التي ظهر فيها الطابوق مكشوفاً بسبب تقادم العمر وغياب الأثاث. ومؤخرًا، ساهمت هجرة بعض العائلات السريانية من المدينة في تناقص عددهم، لكن المدينة لم تخلُ منهم. فعلى الرغم من أعدادهم القليلة، فإنهم لا يزالون يشكلون طيفًا دينياً بارزاً.
ورغم تناقص أعداد المسيحيين في المحافظة وتوجّه كثير منهم إلى محافظات الشمال أو إلى أوروبا منذ ثمانينيات القرن الماضي بسبب “الضغوطات التي مارستها الأنظمة السابقة والحروب والفوضى وبهرج الحياة في الدول الأوروبية”، بحسب مختصين، فإن ميسان ما تزال تمثل أنموذجاً في التعايش السلمي.

يقول جمعة المالكي، رئيس مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية في ميسان: “المسيحيون في مدينة العمارة جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي. لم تُسجّل أي ممارسات عنصرية أو تمييز ديني أو مذهبي ضدهم، بل هناك احترام متبادل خلال المناسبات الدينية، ووجودهم يؤكد عمق التعايش السلمي واحترام التنوع والمعتقدات في المحافظة”.
ويضيف: “كنيستا العمارة تحظيان باحترام وحماية تامة، وهو ما يؤكد أن المسيحيين عاشوا بسلام وأمان في هذه المدينة عبر العقود”.
التوافد إلى كنيسة مار يوسف البتول لا يقتصر على المسيحيين فقط، بل يشمل مختلف أطياف المجتمع في ميسان، من رياض الأطفال إلى طلبة الجامعات، وحتى الوفود الرسمية والأمنية والدينية، في مشهد يعكس عمق العلاقة التي تجمع أبناء المدينة بتاريخهم وتراثهم وموروثهم الديني المشترك.






