نصف قرن على الرصيف.. ذاكرة الصحافة الورقية في العراق

من زنكوغراف الستينيات إلى فوضى الذكاء الاصطناعي.. قصة أقدم موزّع صحف في بغداد
بغداد – أحمد محمد
في فجرٍ شتوي من عام 1965 كان فتى في الثامنة من عمره يشق طريقه من زقاق في الوزيرية نحو ساحة الميدان، يحمل بيديه رزمة جرائد لا تزال دافئة من المطبعة. يخطو وراء والده، الذي علّمه أن الجريدة لا تُوزَّع فقط، بل تُؤتمن. كانت رائحة الحبر تعطر الشارع، وماكنات المطابع تدقّ مثل قلب المدينة، فيما يقف حسن يوسف لأول مرة في وجه يومٍ طويل من التوزيع، لا يعرف نهايته، لكنه تعلّم منذ اللحظة الأولى أنه لا نهاية حقيقية للورق.
في ذلك الوقت، لم تكن الجريدة مجرّد ورق، كانت حدثًا ينتظره الناس في المقاهي والمكتبات والدوائر، وكان موزّع الصحف يُعرف بالاسم، وتُحسب له الساعة. لا تلفاز، لا هواتف، لا منصات؛ كانت المعلومة تُحمَل بالأيدي، وتُسلَّم بشخصٍ له ملامح، وله كلمة. وكان حسن أصغرهم سنًا.
المهنة التي لا تُعلم بل توّرث
ولد حسن يوسف الربيعي في بغداد عام 1957. لم يكن مجرد بائع صغير، بل وريث سلسلة طويلة من “الورّاقين”، لقبٌ أطلق على العائلات التي توارثت مهنة توزيع الصحف منذ زمن المطابع الحجرية. و كان والده موزّع صحف، وورثها عن والد زوجته، المعروف جابر موسى، أحد أقدم الوراقين في بغداد.
“الناس تشوفنا بسطاء، لكننا كنا نوزّع الوعي”، يقول حسن وهو يقلب نسخة قديمة من جريدة . في تلك الأيام، كانت المطابع قليلة والنسخ محدودة، والجرائد تطبع بأيدٍ معدودة، تعلم حسن من والده فن تصحيف الجرائد، لأن الصحف حينها كانت تُطبع بـ “الزنكوغراف”، حروف معدنية تُرتَّب يدويًا. وأي تأخير من الفني قد يعني أن الجريدة لا تصدر.
يقول: “مرة ما طلعت الجريدة لأن العامل الوحيد مرض. الجريدة كانت تتنفس بأنفاس شخص، ماكو بديل”.
كان يحمل الجريدة الأولى في اليوم وهي “اليقظة”، ثم يتبعها بجريدة “الزمان” مساءً، وكل واحدة لها زبائنها ووقتها وطريقتها في التوزيع.
وكانت مهمة الموزّع لا تقتصر على التوزيع، بل على تصحيف الجرائد أيضًا. الصفحة الأولى والأخيرة تُطبع بالألوان لجذب القارئ، بينما الداخل بالأبيض والأسود. والمطابع الأساسية حينها أربع: دار الحكمة، دار الحرية، الزمان واليقظة.
بغداد في قبضة عشرة رجال
في الستينيات، كانت بغداد أصغر. حدودها تنتهي عند شارع عشرين من جهة البياع، وقناة الجيش المشتل من الشرق، والكاظمية شمالًا. ولم تكن المهنة سهلة لأن بغداد مقسمة على عشرة موزعين فقط يغذونها بالصحف وكان حسن، وهو لم يبلغ العاشرة، يتجوّل حاملاً على ذراعيه 250 نسخة، كان مسؤولًا عن “السنتر”: ساحة الوثبة، شارع الرشيد، سوق السراي، مقهى الشاه بندر، الزهاوي، البرازيلية، سوق الشورجة ومكتبة مكنزي.
لم يكن يسير في شوارع المدينة فقط، بل في طبقاتها الاجتماعية كلها، من الطلبة إلى الأدباء، من أصحاب المقاهي إلى الباعة و التجار . “كنت أوصل الصحف للدكتور علي الوردي بنفسي، وكان والدي يختار له العناوين التي يحبها: المقالات الأدبية و الفكرية ومجلة الأدباء”.
كان النداء على الجريدة فناً بحد ذاته، وكانت الدشداشة البيضاء المقلمة، ذات الجيوب الكبيرة، زياً موحدًا، يكفي لحمل الدراهم ودفتر الحساب. وما يجنيه حسن من عمل يومه، كان “العلاگة” التي تعني ببساطة قوت العائلة.
تُسلَّم الصحف في الخامسة صباحًا، وتُنادى بأسمائها على الأرصفة، وتُنقل من يدٍ إلى يد. وكانت النسخة تُقرأ في المقهى، ثم تُعاد إلى الدلّال، الذي يوزّعها على آخرين. ليقرؤوها لأن الظروف الاقتصادية صعبة و الصحف قليلة، آنذاك لكن تأثيرها ممتد وكانت الناس تنتظر الصحف بجوع كأنها وجبة فكرية ضرورية .
يضحك حسن وهو يستذكر طرفة قديمة: “يومها ما انباعت الجرايد، فاجتمع بينا جدي وقال: روحوا نادوا جابر موسى نطحته الجاموسة! مما اثار فضول الناس فتجمعت لتقرأ التفاصيل، وخلصنا من الكمية كلها”.
من الصبي إلى الموظف.. أول خطوة رسمية
في عام 1973، أصبح حسن موظفًا رسميًا في دار الجماهير للصحافة والنشر. لم يكن قد بلغ الثامنة عشرة بعد، لكن خبرته غلبت عمره ليكون اصغر موظف في الدولة العراقية. عينوه مسؤول توزيع، ثم أُرسل في بعثة تدريبية إلى جريدة الأهرام في مصر، وهناك تعلّم أساليب التخطيط والتوزيع التي لم تكن مطبّقة بعد في العراق. كان الصحفي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل رئيس التحرير آنذاك، وشهد بنفسه كيف يمكن لتحريك الجريدة أن يُحرّك شارعًا.
عاد حسن إلى بغداد ليشارك في تقسيم العاصمة إلى أربع مناطق توزيع: كرخ جنوبي، كرخ شمالي، رصافة شرقية، رصافة غربية. صار لكل منطقة نقطة تجميع، ومنها تنطلق الصحف، بسيارات تُحمل بالرزم، لا باليدين كما في السابق لتصل الى ابعد منطقة في بغداد وفق خريطة مرسومة .
الثمانينيات: الجبهة تطبع والجريدة تنقل
مع اشتداد الحرب العراقية–الإيرانية، تغيّر كل شيء وتبدلت ايقاعات المهنة كان يخرج من بيته الساعة الثانية بعد منتصف الليل ليحصل على الطبعة الأولى من الجريدة. زمن الحرب لا ينتظر. “الناس تريد تعرف أخبار الجبهة. الجريدة صارت أهم من الخبز. كل بيت بيه شهيد أو منتظر و أسير ”، يقول حسن ويضيف: “كنا ننام على صوت المطبعة ونصحو على صوت المانشيت”.
رغم ذلك، استمرت بعض الصحف الرسمية، مثل الثورة، الناطقة بأسم الحزب بطبع أكثر من 180 ألف نسخة، توزّع على مؤسسات الدولة والجيش والشعب حيث اعتبرت الماكنة الاعلامية ضمن الماكنات الحربية التي حققت الانتصار في الحرب.
بعض الجرائد كانت تُحمل بالباصات الخشبية إلى المحافظات، وتصل العصر. في هذه الفترة، اختفى الرجال من المهنة، فالكل في الجيش، وتحولت المهنة الى خدمة وطنية وحلّت النساء مكانهم ليصبحن عماد التوزيع ومنهن : خالاته، أخته الكبرى، وحتى نساء الحي .“حتى أختي الكبيرة توزّع. صاروا ينادون أبوي: أبو صبيحة… كانت أنشط وحدة بينّا”، يقول بفخر.
حصار.. ثم ولادة
جاء الحصار بعد حرب الخليج الثانية مطلع التسعينيات . الورق نقص، الحبر شحّ، والمطابع توقفت، لكن المهنة لم تمت. اذ لجأ الموزّعون إلى استنساخ المجلات التي تصل من بيروت، وبيعها بنسخ شعبية تُعرف بـ “طبعة بغداد”. “نستنسخ نسخة وحدة من المجلة ونصورها. المهم أن لا تتوقف القراءة و القارئ يلقى شي يقراه. القراءة كانت مقاومة”.
في 8 حزيران 2003 وبينما العراق يغلي، صدرت جريدة الاتحاد، أول صحيفة بعد سقوط النظام. أوصلها حسن إلى الناس بثلاث طبعات يوميًا، تصل الطبعة الواحدة الى 40 الف نسخة ، وكان يحمل كتاب تخويل من رئيس التحرير ليمرّ عبر السيطرات المسلحة. “كانت الناس تنتظر الجريدة كأنها المتنفس الوحد. ماكو إذاعة، ماكو تلفزيون، بس الجريدة”. ثم ظهرت صحف مثل المدى، الزمان، العدالة وغيرها، وكان ذلك آخر عصر ذهب فيه المواطن إلى الكشك باحثًا عن عنوان صادق في الجريدة .
توزيع تحت النار
في أخطر لحظات العراق، لم يتوقف حسن عن التوزيع. خلال الحرب الطائفية، نصب إرهابيون سيطرة وهمية في ناحية الوحدة شرقي بغداد، وكان عائدًا من البصرة مع زميله علي مهدي . “سألني علي: شنسوي؟ قلت له: الكاتبة ربك يصير. وجهوا القاذفة علينا… لكن رفعوها فوق السيارة، وضربوا للسماء”. يروي بهدوء رجلٍ واجه الموت أكثر من مرة، لكنه لم يغيّر طريقه.
يتذكر حسن يوم سقوط الموصل، حين علق داعش فتوى بقتله في أحد مساجد المدينة لأنه كان يصرّ على إيصال الجريدة إلى هناك. “وجدت اسمي على قطعة قماش مكتوب عليها: يجب قتله. لكنني ما رجعت. سلكت طريق أربيل ووصلت الجريدة”.
من 180 صحيفة إلى ثورة رقمية
مع مرور الوقت،بعد 2005 بدأت الصحف الورقية تفقد بريقها. في ذروة الانفتاح، وصل عدد الصحف إلى أكثر من 180 صحيفة يومية وأسبوعية، كثير منها غير مهني. ومن هب ودب اصبح يصدر جريدة ومع دخول الإنترنت، بدأت “الرصاصة الأخيرة” في مهنة التوزيع. “الثورة الرقمية مو بس قتلت التوزيع قتلت العقل. الناس تقرأ وما تحفظ، لأن كل شيء متاح وسريع”.
ثم جاء الذكاء الاصطناعي، ومعه تضاعف التزييف، وتراجعت الثقة في الأخبار. الصحف الورقية، برأيه، كانت أكثر صدقًا، أبطأ لكنها أعمق.
“الناس اليوم تقرأ كل شي وما تتذكر شي. زمان، أقرأ المقال وأحفظه. اليوم، تمر الجملة وما تترك أثر. الحبر يبقى… الشاشة تروح”. يقول متأسفا.
وصيّة الوراق الأخير
في عام 1993، توفي والد حسن. طلب أن تُوضع صحف على قبره. بعد أربعين يومًا، زار حسن القبر فوجد عشرات الجرائد موضوعة فوق التراب.”بكت أمي وقالت: حتى هنا لحقتني الجرايد”.
واليوم، في عمره الثامن والستين، لا يزال حسن يوسف يداوم في مؤسسة المدى الإعلامية قرب شارع أبو نؤاس يجلس في مكتبه تفوح منه رائعة الحبر العتيق، تحت صور زملائه الصحفيين الراحلين معلقة على الجدران وبين اكوام من الجرائد التي مر على بعضها نصف قرن ، يراجع الأرشيف، يقرأ العناوين، ويتصفح المجلات كأنه اخر من تبقى من مهنة تتنفس بصعوبة .
“أسوأ يوم في حياتي هو اليوم اللي يُفرض عليّ أترك المهنة”، يقول بصوت متهدج. ثم يضيف، كما لو أنه يكتب عنوانًا أخيرًا:
“نصيحتي للشباب؟ لا تتركوا القراءة. هي اللي تصنع القائد. الثقافة مو ترف، الثقافة هي التي تبني البلد فلا تهجروها. وللبنات الصحفيات بناتي العزيزات أقول: اهتممن بجمال الكلمة، مو بجمال الصورة… لأن الكلمة أبقى من أي تجميل آخر، والباقي يروح”.