“الظلام يتكلم” قصة تحكيها المكفوفتان دعاء وفاطمة على خشبة المسرح

المنصة – مرتضى الحدود
في لحظة لا تُنسى، تتجه أنظار الحضور إلى خشبة المسرح حيث تبرز صور الممثلين وهم يدخلون بكل ثقة وجمال ليقدموا أول عرض مسرحي من نوعه في مدينة الناصرية جنوبي العراق لكن ما يميز هذا العرض ليس فقط الفكرة بل ان أبطاله فتاتان مكفوفتان ترتديان النظارات السوداء، وتجسدان في كل حركة على خشبة المسرح تناغما دقيقا ودراسة متأنية.
خطواتهما على الخشبة لم تكن مجرد حركات عابرة، بل كانت محكومة بحسابات دقيقة، وكل خطوة تم تحديد مكانها بدقة في عرض مسرحي تم تصميمه بعناية ليلبي متطلبات الإبداع والتفاعل، فالاداء الذي قدمتاه دعاء الحسيناوي وفاطمة الصالحي لم يكن مجرد عرضا بل كان رسالة ملهمة للعالم مفادها أن الإرادة أقوى من أي عقبة.
تقول الحسيناوي “لدي هواية فنية وهذا العمل اعتبره فرصة لي للتعبير عما يجول في خاطري وذهن الاخرين ضمن فئتي من المكفوفين” بهذه الكلمات تكشف عن شغفها العميق بعالم الفن الذي بات جزء لا يتجزأ من حركة تغيير اجتماعي يعكس حقيقة إصرار المكفوفين على التواجد والمشاركة في شتى المجالات في ذي قار.
كان الضوء مسلطا على دعاء وهي تتنقل على خشبة المسرح ليس فقط لتألقها في أداء دورها ولكن لأنها كانت تمثل قصة فريدة تنبض بالأمل والإبداع تسلط الضوء على دور المكفوفين في المجتمع، لحظة اعتبرتها واحدة من أسعد لحظات حياتها، لذلك حينما طلب منها ترشيح سيدة أخرى مكفوفة لتجسيد القصة المسرحية اختارت صديقتها فاطمة .
دعاء التي تبلغ من العمر ثلاثين عاما هي عضو في مجموعة “أبي العلاء المعري” التابعة لفريق “شولكي” التطوعي المهتم بالثقافة والفنون والذي يضم فقط المكفوفين من الذكور والإناث ومن خلال هذه المجموعة أتيحت لها الفرصة لأداء دورها في المسرحية بعنوان “الظلام يتكلم”.
يضم فريق”أبو العلاء المعري نحو 25 عضوا من المكفوفين في خطوة تهدف إلى تنمية مهاراتهم المسرحية وتحقيق حلمهم في الوقوف على خشبة المسرح.
هذه التجربة الاستثنائية لها بدأت معها عندما دخلت في الجانب العملي للمسرح اذ تلقت السيناريو المسرحي مكتوبا عبر جهازها الذكي ثم تستخدم تطبيقا خاصا لتحويل النص المكتوب إلى صوت ناطق يمكنها الاستماع إليه وحفظه بشكل دقيق.
لم تكن هذه المهمة سهلة بل تطلب منها جهدا وعملا دؤوبا على مدار اربعين يوما من “البروفات” اليومية مع زملائها، حيث كان كاتب النص يقوم بنقلهم يوميا إلى دار الفنون لمواصلة التدريب لكن هذه التحديات لم تثني عزيمتها بل جعلتها أكثر إصرارا على تقديم أفضل أداء ممكن، حتى استطاعت مع زملائها إتقان العرض المسرحي على أكمل وجه.
وإلى جانب شغفها بالفن المسرحي لا تفوت دعاء فرصة تقديم برنامج إعلامي ترفيهي عبر قناة يوتيوب وتقول دعاء ” ان برنامجها الاعلامي يقدم في اذاعة الكترونية على مدار ساعة تقريبا بعنوان “احلى مساء مع دعاء” والذي يشهد تفاعلا كبيرا من قبل المتابعين”.
أما فاطمة هشام الصالحي الممثلة الثانية في المسرحية ضمن الفريق الكامل المكون من اربعة اشخاص حيث كشفت عن شغفها الكبير بالفن المسرحي ورغم انه التجربة الاولى لها قالت إن “خبر دعوتها للمشاركة في التمثيل من صديقتها دعاء كان مفاجئا ومفرحا في نفس الوقت اذ تقول “هذه فرصة لي لخوض هذه التجربة بالاضافة الى ذلك ان موضوع المسرحية يحمل رسالة عن المكفوفين واين هم”.
وأضافت فاطمة أن المسرحية لم تكن مجرد تجربة فنية بالنسبة لها، بل كانت بمثابة منصة لرفع صوت المكفوفين، والتأكيد على وجودهم وأهمية دورهم في المجتمع فهو يحمل رسالة قوية عن المكفوفين وأين نحن في هذا العالم، وكيف نُنظر إليه.
وعن تجربتها الأولى على خشبة المسرح وصفت فاطمة لحظة العرض النهائي بأنها كانت مليئة بالتحديات، حيث تواجهت مع مشاعر الارتباك، لكنها في الوقت نفسه استطاعت السيطرة على نفسها والتمكن من تقديم أداء مميزا اذ تقول “ما بين الارتباك والسيطرة على النفس، تمكنت من التخطّي وكانت تجربة جميلة ومحطة جديدة في حياتي، تعلمت منها الكثير” مؤكدة أن هذه التجربة ستكون نقطة انطلاق لمزيد من المغامرات الفنية في المستقبل.
كاتب المسرحية والمشرف على فريق “شولكي التطوعي” علاء حسين الخفاجي قال ان الاسباب التي دفعته لتشكيل فريق مسرحي من المكفوفين هي تعامله المباشر مع هذه الشريحة وعقد الورش التدريبية في مجالات متعددة حيث اكتشف الخفاجي أن المكفوفين يمتلكون قدرات غير عادية ومهارات عالية هذه الاكتشافات كانت الدافع الأساسي لإطلاق مشروعه.
وأشار الخفاجي إلى أن الفكرة بدأت تتبلور بعد عدة لقاءات متكررة مع أعضاء الفريق، حيث أخذ القرار بأن تكون أول مسرحية للمجموعة من تأليفه. وقال أن “فكرة اقامة مسرحية تتمحور عن هذه الشريحة خصوصا واني كاتب نص مسرحي لتكون هذه المسرحية الاولى على مستوى ذي قار والثانية على مستوى العراق فقد إذ سبقتنا كربلاء في ذلك”.
وفي سياق حديثه عن تفاصيل العمل، كشف الخفاجي عن التحديات التي واجهها في إدارة الكادر المسرحي، حيث حرص على تكوين فريق متجانس من سكنة المدينة لتخفيف المصاريف، وكان هو نفسه المسؤول عن نقلهم إلى مكان التدريبات والعروض إلا أن الدعم الذي تلقاه الفريق من الجامعة الوطنية كان له الأثر في تغطية تكاليف العرض، من أجور وأدوات مسرحية، ما ساعدهم على استكمال المشروع.
عنوان المسرحية “الظلام يتكلم” وابطاله اربعة اشخاص من المكفوفين اثنين من الذكور واثنين من الاناث حيث كان اختيار الخفاجي للاشخاص مدروسا بعناية، ليعكس محنة المكفوفين ورغبتهم في التعبير عن أنفسهم رغم التحديات ورغم الظروف الصعبة فقد لقي العرض تفاعلا كبيرا من الجمهور، مما دفع الفريق نحو العمل على اعادة عرضه في موقع آخر قريبا ولم يتوقف النجاح هنا، بل دفعهم أيضا إلى السعي لكتابة نص مسرحي جديد، مع آمال كبيرة في إكماله قريبا.
الى ذلك اوضح رئيس جماعة الناصرية للتمثيل الدكتور ياسر البراك أن “الاهتمام الرسمي بفئة المكفوفين لا يزال دون المستوى المطلوب مشيرا إلى أن تأسيس فرقة مسرحية تحمل اسم “فرقة أبي العلاء المعري” وتمثلها مجموعة من المكفوفين يُعد خطوة نوعية متقدمة نحو تمكين هذه الشريحة المهمشة”.
وفي حديثه لـ”المنصة” أوضح البراك أن العرض المسرحي الأول للفرقة كشف عن وجود طاقات إبداعية حقيقية لدى المكفوفين، يمكن صقلها وتحويلها إلى أدوات فنية مؤثرة، إذا ما توفرت لها البيئة الداعمة.
وأضاف أن “الفرقة بحاجة إلى تدريب وتطوير مستمر خاصة في الجوانب التقنية للمسرح مشيرا إلى أنه تم التنسيق مع القائمين على منتدى الفنون في الناصرية لتوفير الدعم الفني اللازم، بهدف تطوير الأداء وتقديم أعمال بمواصفات أكاديمية”.
وختم البراك بالقول إن هذه المبادرة تمثل بداية حقيقية لفتح المجال أمام المكفوفين للاندماج في الحياة الثقافية والفنية، ومنحهم فرصة التعبير عن ذواتهم وإيصال رسائلهم عبر خشبة المسرح.
إن هذه التجربة ليست مجرد عرض مسرحي بل هي دعوة حية لإعادة التفكير في الإمكانيات الخفية لدى المكفوفين وضرورة منحهم الفرصة لإثبات أنفسهم.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)