قهوة على أنقاض الذاكرة: قصة البيوت التراثية التي تحوّلت إلى مقاهٍ

بغداد- فاطمة كريم
من خلف الأبواب الخشبية العتيقة لمبنى دائرة الأوقاف السابق في بغداد، لم يعد صوت المراجعين يتردد في الأرجاء، بل أزيز أواني الطعام ونقر الصحون وقرقرة الأراجيل، بعد أن تحول إلى مشروع استثماري. وبالرغم من التغيير الجذري في وظيفته، لم تزل نوافذه الخشبية المطعّمة بالزجاج الملوّن تهمس بقصص الماضي، لكنها اليوم تطل على طاولات الطعام بدلاً من رفوف الكتب.
القرار يثير جدلًا
في زاوية هادئة من مطعم “مقهى القبانجي” داخل مبنى دائرة الأوقاف السابقة، يجلس الحاج نعيم عبد الله، وهو في الـ74 من عمره، يتأمل جدران المكان بعينين يختزنان ذاكرة من زمن مضى. يقول بنبرة حزينة:
“كنت آتي هنا وأنا في مرحلة الشباب لأنهي إجراءات بعض المعاملات التي تخص دائرة الأوقاف، كان المكان له ثقله وهيبته. أما الآن، فمن المؤسف أن نراه بهذه التغيرات الجديدة، ربما مظهره جميل، لكن لا توجد فيه روح. روح المكان لا تُنسى”.
بُنيت دائرة الأوقاف العامة في بغداد عام 1929، لتكون إحدى أبرز المؤسسات الدينية والإدارية في العراق، ومركزًا لإدارة الأوقاف الإسلامية وتنظيم شؤون المساجد والحسينيات والمكتبات الدينية. كان المبنى رمزًا للهيبة، يحتضن بين جدرانه أرشيفًا ضخمًا من المخطوطات والوثائق التي توثق التاريخ الديني للبلاد، ويتميز بطراز معماري بغدادي فريد يمزج بين الفن العثماني والهوية المحلية.
لكن المبنى الذي ظل لعقود بوابة للتشريع الديني، تحوّل مؤخرًا إلى مطعم ومقهى فاخر تحت اسم “مقهى القبانجي” بعد أن تمّ تأجيره من قبل إحدى الشركات الاستثمارية. وعُدّ هذا التحوّل جزءًا من ظاهرة بدأت تتسع في العاصمة حيث يتم تأجير المباني التراثية إلى القطاع الخاص لاستخدامات تجارية تحت عنوان “التنشيط السياحي”.
أثار هذا التحوّل جدلاً واسعًا بين المختصين في التراث، خاصةً أن بعض أجزاء المبنى ما زالت تحتفظ بعناصر معمارية وتفاصيل زخرفية تُعد من الإرث الوطني، مثل الأبواب الخشبية الأصلية والسقوف المقوسة والبلاط المزخرف بنقوش إسلامية.
هيئة الآثار والتراث التابعة لوزارة الثقافة كانت قد أكدت في تصريح على لسان مسؤوليها “أن المبنى مصنّف ضمن الأبنية التراثية المحمية بموجب قانون الآثار رقم 55 لسنة 2002، ولا يجوز تغيير طابعه المعماري أو وظيفته التراثية دون موافقة مسبقة”، موضحة أن “أي استثمار يجب أن يراعي شروط الحفاظ على الهوية المعمارية، وإلا يعرض المستثمر لغرامات أو سحب الإجازة”.
ويعبّر المؤرخ الدكتور محمد الطائي عن قلقه من استثمار المبنى التاريخي قائلاً: “هذه المباني ليست حجارة فقط، بل ذاكرة حيّة. تحويلها إلى مطاعم دون اعتبار لطابعها المقدس أو الإداري التاريخي يفقد المدينة جزءًا من روحها”.
ويضيف: “الأمر لم يقتصر على دائرة الأوقاف فقط، إنما ما يحدث في بغداد من تحويل المباني التراثية الكثيرة إلى أماكن تجارية هو جزء من صراع صامت بين الاقتصاد والذاكرة”.
في المقابل، يرى مستثمرون أن هذه التحولات تساهم في “إحياء المباني المهجورة” وتحقيق عوائد مالية تساعد على صيانتها بدلاً من تركها للإهمال والانهيار، معتبرين أن التوازن بين “الوظيفة الجديدة” و”الهوية الأصلية” ممكن إذا توفرت الرقابة والمعايير.
من رموز الملكية إلى جلسات القهوة
لم تكن دائرة الأوقاف العامة المثال الوحيد على تحوّل المعالم التاريخية في بغداد إلى مشاريع استثمارية، بل تبعها أيضًا قصر الملكة عالية، أحد أعرق المباني الملكية التي بقيت شاهدة على حقبة حساسة من تاريخ العراق الحديث.
بُني القصر في ثلاثينيات القرن الماضي ليكون مقرًا لإقامة الملكة عالية بنت الشريف حسين، شقيقة الملك فيصل الأول ووالدة الملك فيصل الثاني. يطل القصر على شارع أبو نؤاس في بغداد، ويتميّز بهندسته المعمارية الفخمة التي تجمع بين الطراز الإنجليزي والشرقي، من خلال الحدائق الواسعة، والنوافذ القوسية، والنقوش الملكية المنحوتة على الجدران.
بعد سقوط النظام الملكي عام 1958، مرّ القصر بمراحل مختلفة من الإهمال، قبل أن يتحوّل مؤخرًا إلى مطعم ومقهى فاخر يحمل اسم “قصر عالية”، في محاولة للاستفادة من القيمة التاريخية للمكان في إطار تجاري.
كما حدث مع مبنى الأوقاف، قُوبل هذا التحوّل بانتقادات من قبل باحثين ومهتمين بالتراث، خصوصًا أن القصر يُعد من رموز الدولة العراقية الحديثة، ويرتبط مباشرة بذاكرة العائلة المالكة.
هيئة الآثار والتراث أكدت أن “القصر مسجّل ضمن لائحة الأبنية التراثية، وتم منح الموافقة على تشغيله كمرفق سياحي وفق معايير معينة تحظر أي تعديل بنيوي أو تشويه معماري”.
عندما تتحول هذه الأبنية إلى مشاريع تجارية، فإن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في الاستخدام، بل في كيفية الحفاظ على أصالتها المعمارية أثناء التحوير.
تقول المهندسة إسراء الشمري، المتخصصة في توثيق التراث المعماري العراقي: “المشكلة ليست بتحويل بيت تراثي إلى مطعم، بل في الطريقة التي يُنفذ بها هذا التحويل. بعض المشاريع تهدم الجدران الداخلية لإضافة صالة واسعة، أو تستبدل النوافذ الخشبية القديمة بأخرى ألمنيوم، وهذه تغييرات تمس جوهر العمارة.”
وترى إسراء أن الهندسة المعمارية التراثية ليست فقط عناصر زخرفية، بل تتضمن منظومة متكاملة من الضوء، التهوية، الإيقاع البصري، والتدرّج في الانتقال بين الفراغات.
“هذه التفاصيل عندما تُمحى لصالح تصميم تجاري سريع، نكون أمام مسخ معماري.”
حين يتحوّل التاريخ إلى مشهد تصويري
بيت البمبلي هو منزل تراثي يقع في بغداد بمنطقة ساحة السراي، ويشتهر بأنه كان يعود لعائلة البمبلي، ثم اشتراه التاجر فاروق الألماني وجعله محلًا لبيع التحف. يُعرف أيضًا بـ”بيت فاروق الألماني”.
تحوّل البيت إلى مقهى تراثي حمل اسم “حراير”، نسبةً إلى الشركة المستثمرة التي لها فروع كثيرة في مناطق بغداد.
واجهة البيت من الداخل تحمل تصاميم مستوحاة من الأجواء البغدادية القديمة، مع الحفاظ على بعض العناصر الأصلية مثل النوافذ المشبّكة بالخشب وبلاط الأرضية المزخرف والسلالم الخشبية الحلزونية، فأصبح هذا المكان مفضّلًا لعشّاق التصوير والفن، حيث يستضيف فعاليات ثقافية وجلسات تصوير وجلسات طرب.
أحمد قاسم، وهو في الـ26 من عمره، مصوّر وصانع محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي ينشر يومياته ويبحث عن الأماكن الجديدة في بغداد ليعرف جمهوره بها. يعبّر قاسم عن حماسه لهذا النوع من المشاريع، وقال وهو يلتقط صورًا داخل بيت البمبلي: “الناس تحب الأماكن التي بها طابع قديم، والمكان هذا جذبني جدًا للتصوير. لو لم يتحول المقهى ربما كان اندثر أو نُسي مثل باقي الأماكن، يجب استخدام التراث وإحياؤه، لا نحتفظ به فقط”.
ومع أن مظهر المكان يوحي بالحفاظ على الروح التراثية، إلا أن مختصين في العمارة والتوثيق الثقافي عبّروا عن قلقهم من الاستخدام الزائد للمكان كـ”ديكور استهلاكي” دون تطبيق فعلي لمعايير الصيانة التاريخية.
فيما تؤكد وزارة الثقافة العراقية – دائرة التراث أن “البيت غير مسجّل ضمن تصنيف الدرجة الأولى، ما جعله أقل حماية قانونية من غيره، وبالتالي أُعطي الاستثمار بمرونة أكبر”.
وبالنسبة للكثيرين من منتقدي هذه القرارات، التحول من التاريخ إلى الاستهلاك لا يُقاس فقط بالديكور ولا بالمبيعات بل بكيفية فهمنا لهوية المدن، هل نراها مجرد خلفية جميلة أم ندرك أنها طبقات من الذاكرة ينبغي صونها لا تزيينها ومن ثم تأجيرها للمستثمرين فقط؟