نساء من البصرة: “جبهة ناعمة” في مواجهة العنف والتطرف

البصرة- نغم مكي

في قاعة بسيطة بقضاء الزبير في محافظة البصرة، بدأت رحلة أفراح فالح علي، البالغة من العمر 45 عامًا، نحو دور جديد لم يكن في حسبانها. ترشيح عابر من القائم مقام المحلي أدخلها إلى عالم مكافحة التطرف العنيف، حين أصبحت عضوًا في فريق المرأة العراقي المعني بهذا الملف، لتخوض بعدها تجربة غير اعتيادية مليئة بالتحديات والرهانات المجتمعية.

“البدايات هي الأصعب”، تقول أفراح بابتسامة تحمل في طياتها مرارة الطريق. الطريق لم يكن مفروشًا بالورود، بل مزروعًا بالأحكام المسبقة والمطبات الاجتماعية. فخريجة الصف السياسي التي تلقت تدريبات مكثفة في الحوار والتفاوض وإدارة الجلسات، واجهت قناعة شائعة بأن “المرأة كائن هش لا مكان له في المجال الأمني”.

لكن أفراح لا تقف عند هذه الصورة النمطية، بل ترد عليها بالأمثلة: “أول عملية إرهابية في باريس عام 2015 نفذتها امرأة تُدعى حسناء، وأول كتيبة شكلها تنظيم داعش كانت نسائية، وأطلقوا عليها اسم كتيبة الخنساء”. بهذه المقارنة، تشير أفراح إلى أن الجماعات المتطرفة لم تتردد في توظيف النساء ضمن أجندتها العنيفة، وهو ما يعكس أهمية العمل في أوساط النساء لمواجهة الفكر المتطرف.

وتستخدم التنظيمات الإرهابية النساء لأسباب تكتيكية واستراتيجية، منها سهولة تحركهن وقلة الاشتباه الأمني بهن وامكانية استخدامهن في التجنيد والدعاية الإلكترونية، وحتى في العمليات الانتحارية كما في حالة “كتيبة الخنساء” التي أنشأها داعش عام 2014.

البصرة.. على هامش الخطر

لطالما كانت البصرة بوابة العراق البحرية ونقطة التقاء تجاري وثقافي، لكنها لم تكن بعيدة عن تداعيات التطرف. ورغم أنها لم تُعرف كبؤرة رئيسة لتنظيمات كداعش أو القاعدة، إلا أن تأثيرات هذه الجماعات وصلت إليها، خاصةً بفعل قربها من الحدود مع السعودية والكويت، واتساع أراضيها الصحراوية، تحديدًا في قضاء الزبير الذي يشكّل ما يقارب 26.2% من مساحة محافظة البصرة.

توضح أفراح: “لدينا سوء حال اقتصادي وتغيرات مناخية. هذان عاملان يخلقان بيئة خصبة للتشدد”. فالتلوث، وشح المياه، وانعدام فرص العمل، كلها عوامل تزيد من حدة الإحباط، وتفتح الطريق أمام الجماعات المتطرفة التي تستثمر في اليأس.

ومع انحسار نفوذ داعش وتراجع التهديد العسكري المباشر، تحول التحدي الأمني إلى ساحة فكرية واجتماعية. باتت المعركة الآن تدور في الأذهان، لا على الجبهات، وهي معركة تتطلب “أدوات ناعمة” تعتمد على التوعية والتمكين والوقاية.

فريق نسائي ضد التطرف

أفراح هي واحدة من 35 امرأة عراقية من مختلف المحافظات، من دهوك شمالًا إلى البصرة جنوبًا، يعملن ضمن “فريق المرأة العراقي لمكافحة التطرف العنيف”، بإشراف اللجنة الوطنية في مستشارية الأمن القومي، وبدعم من منظمة الهجرة الدولية (IOM).

في محافظة البصرة وحدها، تعمل أكثر من خمس نساء بشكل فعّال في هذا الملف، يهدفن إلى كسر الصور النمطية المرتبطة بالمرأة، ومنع الفكر المتطرف من التسلل إلى المجتمع من خلال العمل الميداني المباشر، خاصة في المناطق المهمّشة.

تقول أفراح: “أنا لا أملك منظمة، لكن أساعد النساء من باب التطوع. أوفر لهن فرص عمل بسيطة حسب إمكانياتي”. وتضيف: “عملنا مبادرة شخصية وموجّه لله. لا نملك دعمًا حكوميًا، لكننا نستمر. نحن نعطي فقط ولا نأخذ”.

هذه الجهود، رغم بساطتها، تعتبر من الخطوط الدفاعية الأولى في وجه الخطابات المتطرفة، لأنها تمنح الأمل وتخلق بدائل ملموسة.

الاقتصاد.. بوابة للوقاية

تعتبر أفراح أن التمكين الاقتصادي للنساء عامل أساسي في محاربة التطرف. ولذلك، تركز ورش العمل التي تشارك في تنظيمها على تعليم مهارات مهنية وتوفير فرص عمل. ترى أن الحلول تبدأ من الأسرة والحي، من المرأة التي تعرف كيف تحاور وتبني الثقة في مجتمعات فقدت الكثير من يقينها.

وتقول: “المرأة قادرة على أن تكون صانعة سلام. فقط تحتاج إلى مساحة آمنة وصلاحيات حقيقية”.

خلال مسيرتها، شاركت أفراح في لقاءات رسمية رفيعة، من ضمنها اجتماعات مع وزير الداخلية الأسبق وسفراء دول مثل ألمانيا وهولندا، وهو ما وسّع من خبرتها وفتح أمامها أفق العمل من نطاق محلي في الزبير إلى نطاق أوسع يشمل محافظة البصرة كلها.

لكن هذا العمل له ضريبته. تعرضت أفراح لتهديدات مباشرة، بينها حادثة كادت أن تؤدي بحياة ابنتها. “لا أحب الحديث عنها، لكنها كانت كافية لردع أي شخص. إلا أنني مستمرة. هذا المجال ليس مجرد شغف، بل عشق”، تقول بإصرار. وتتابع: “الإرهابي قد يسبقنا بخطوة، لكن لدينا نساء واعيات. نحتاج فقط إلى دعم حقيقي، لا مجاملات”.

نحو شبكة نسوية فاعلة

تحلم أفراح بتوسيع شبكتها لتشمل كل حي وبيت في البصرة. تطمح إلى خلق شبكة من النساء القادرات على نشر ثقافة اللاعنف والتسامح، ومواجهة خطاب الكراهية والانتقام.

وترى أن قرارات دولية مثل قرار مجلس الأمن 2242، الذي عزز دور النساء في مكافحة الإرهاب، تشكّل أرضية قانونية مهمة تمنح المرأة صلاحيات جديدة لتكون شريكة فاعلة في جهود التنمية والاستقرار.

تختتم أفراح حديثها وعيناها تلمعان بالعزيمة: “عندما تشعر المرأة بالأمان، تُبدع وتنطلق. لدينا نساء قادرات، فقط نحتاج من يؤمن بنا، ويدعمنا لنصنع الفرق، ونحصّن مدينتنا ضد الفكر الظلامي”.

 

أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى