ناعور العصر الحديث.. رجال المياه في أزقة بغداد

بغداد- أحمد كوكب

في أزقة ناحية الرشيد جنوب بغداد، يتردد نداء مألوف في صيف العاصمة “مي أرو.. مي أرو!”، يرافقه صوت محرّك متعب لدراجة ثلاثية العجلات تُعرف محليًا بـ”الستوتة”، تعلوها خزّانة مياه بيضاء ضخمة يتدلّى منها خرطوم، تتحرك ببطء بين البيوت، يسبقها رذاذ خفيف، ويقودها الشاب عباس چلاب، مرتديًا قبعة قماشية سوداء ولفافة قطنيّة تُغطي وجهه اتقاءً لحرارة الشمس ولهيب الطريق.

عباس.. ناعور العصر الحديث

يفتح عباس الصنبور ببطء ويملأ الجالون البلاستيكي بينما ينبعث من مكبر الصوت المثبت فوق المركبة ذلك النداء الذي بات مألوفًا في أحياء بغداد: “مي أرو.. مي أرو!”. لم يعد مجرد إعلان عن ماء صالح للشرب، بل امتداد حيّ لمهنة قديمة بثوب عصري، مهنة بائع الماء المتنقل، ناعور العصر الحديث.

قبيل الغروب، حين تبدأ خيوط الشمس بالانكسار، يبدأ عباس يومه. يتفقد زيت الستوتة، يراجع ضغط الإطارات، ويغسل الخزان في محطة التصفية التي يملكها “أبو درع”، الرجل الذي لا يبخل عليه بالدعاء والنصيحة. لا يبدأ عمله في الصباح كما قد يُتوقع، بل يخرج بعد الظهر، إذ يقول وهو يملأ الخزان: “الظهر وقت المساكين.. الحر يعصرهم، وأنا العصر أرويهم”.

عباس، ابن الخامسة والعشرين، يحمل شهادة بكالوريوس في المحاسبة، لكنه ترك جداول الأرقام ليملأ جالونات الماء. يعيل عائلة كبيرة من أحد عشر فردًا، ووجد في هذه المهنة متنفسًا اقتصاديًا لا ينتقص من كرامته. لم يكن ذلك خياره الأول، لكنه أصبح واقعه منذ قرابة عقد.

ماء الإرو.. التسمية والمصدر

قد يجهل البعض اسم هذه المهنة، لكن صوتها معروف لدى الجميع؛ صفارة أو تسجيل يصدح من بعيد معلنًا وصول “المي أرو”. بعد عام 2003، ومع تدهور شبكات المياه في العراق، عاد الناس إلى شراء الماء كما في زمن الناعور والسقا، لكن بأدوات مختلفة: الستوتة بدل الدابة، وخزان بلاستيكي بدل السطل النحاسي.

وجاء التسمية الشعبية “ماء الأرو” نسبة إلى أجهزة تنقية المياه المعروفة تجاريًا بـ RO اختصارًا لـ Reverse Osmosis، وهي تقنية تعتمد على غشاء شبه نافذ لعزل الأملاح والشوائب. ومع الوقت، أصبحت عبارة “ماء إرو” مرادفة للماء النظيف الصالح للشرب.

يقود عباس الستوتة كملاح بارع. يشتري 500 لتر من “أبو درع” بثلاثة آلاف دينار، ويبيعها ما بين 12 و14 ألفًا، وأحيانًا يوزّع حتى ألف لتر في اليوم. لكنه لا يكتفي بالحسابات، فالعلاقة مع الزبائن بالنسبة له لا تقل أهمية. يقول: “كل زبون عنده مفتاح خزانتي.. إذا ما أعجبهم المي أبدله، وأنا الممنون”.

سجاد.. طالب بقبعة ناسا وستوتة

في زاوية أخرى من العاصمة، يسلك سجاد طريقًا مشابهًا. شاب في التاسعة عشرة من عمره، طالب في كلية التربية الرياضية بجامعة بغداد، يعمل منذ خمسة أشهر في بيع الماء. يرتدي قبعة قطنية وتي-شيرتًا أزرق رُسم عليه شعار وكالة “ناسا”، وكأنما يعلن عن حلم أبعد من أزقة بغداد. يقول مبتسمًا: “كنت أشتغل بمطعم، بس أخويا گالي: تعال جرب الشغل النظيف… المي ينعش مو بس العطشان، حتى الجيب”.

يوازن سجاد بين الدراسة والعمل؛ يستيقظ مبكرًا، يذهب إلى الجامعة، ثم يعود بعد المحاضرات ليقود الستوتة. في أول يوم له تعطلت المركبة بسبب نفاد البنزين، فطرق باب أحد البيوت خجولًا، وأعاره أحد السكان جالونًا. ومنذ ذلك اليوم، لا يغادر سجاد دون جالون احتياطي، ويتفقد البنزين ثلاث مرات يوميًا. يقول بينما يملأ دبة عشرين لترًا لسيدة وقورة تشكره بدعاء أمومي: “ما أعتقد أشتغل بيها بعد التخرج، بس هسه تنفعني وتخليني أتحرك براحتي”.

سمير.. خزان على أربع عجلات

في الجانب الآخر من بغداد، وتحديدًا في حي الجمعية، يقف سمير وليد، المعروف بـ”أبو يوسف”، إلى جانب سيارته الكيا البيضاء. خزانان كبيران يحتلان نصف المركبة، وخرطومان مربوطان بإتقان، كأنهما ذراعان يسقيان المدينة.

يربّت سمير على الزجاج الأمامي المتصدع ويضحك: “هاي مو بس سيارة، هاي مصنع متنقل… وأحيانا مطب، خصوصًا إذا مريت على حفرة ناسية روحها مفتوحة من 2007!”.

كان سمير في السابق يصلح الدراجات، ثم انتقل إلى النجارة، وأخيرًا استقر في بيع الماء. يجد في المهنة رزقًا مستقرًا، لكنه يشكو من منافسة الشركات التي توفّر خزانات مجانية وتعبئة دورية للمنازل، ما أثر على زبائنه وقلل الطلب. “أحاول أعوّض بالأمانة”، يقول، ثم يضيف: “أنا مو بس أجيب مي، أجيب ثقة… حتى الصحة تراجع المحطة اللي أتعامل وياها وتختم عليها”.

زبائن على الرصيف.. وثقة تعبأ يوميًا

الزبائن أنفسهم يشكلون رواية موازية للمهنة. أبو سجاد، رب أسرة في الرابعة والخمسين من عمره، يشتري من باعة الماء المتجولين منذ سنوات، ويختصر المسألة بقوله: “احنا العراقيين نتعاجز.. يجيك للباب ويعبيلك المي وانت بقميص النوم!”. يرى أن السعر معقول، والخدمة موفرة للوقت والجهد.

أما أم شهرزاد، فتولي اهتمامًا بالجودة قبل أي شيء. تقول بثقة: “أشوف نظافته، الستوتة، الخزان مغطى؟ الجيران يشترون منه؟ ومجربينه؟ هو هذا كلشي بالنسبة إلي”. ثم تضحك وتضيف: “مرة طلع ميه أحلى من مي المطاعم!”.

تشترك قصص عباس وسجاد وسمير في تفصيلة واحدة، عميقة في بساطتها: هذه المهنة ليست غاية، بل وسيلة. وسيلة تعين العائلة، وتبقيهم واقفين على أقدامهم. كلٌّ منهم يرى فيها بابًا مؤقتًا نحو مرحلة أخرى؛ عباس نحو الاستقلال وتكوين حياة مستقرة، سجاد نحو التخرج ليصبح مدرس تربية رياضية، وسمير نحو الحفاظ على لقمة العيش بلا عوز.

ورغم الشمس الحارقة، والمنافسة، وضيق الأزقة، تبقى الستوتة تمخر شوارع بغداد كسفينة صغيرة على نهر متعب، لا قوانين تمنعها ولا وزارة تلاحقها، يعرفها الجميع ويعرفون أنها تخفف العبء، وتفتح أبوابًا للشباب، حتى وإن كان الرزق الذي تحمله “ينقط” مثل دبة الماء، لا يندفع بغزارة.

مع أذان المغرب، يهدأ هدير المحركات. يجلس عباس عند ناصية شارعه، يتفقد الخزان الفارغ ويمسح جبينه بطرف “الشفقة”، تمر بجواره ستوتة أخرى ببطء، تتعالى صفارتها كأنها تحية مسائية من رفيق مهنة. يلوّح لها بكف متعبة، ثم يجلس على حافة الرصيف، يراقب انعكاس الشمس الأخيرة على سطح الخزان الفارغ، يلفّ الخرطوم بعناية كمن يطوي صفحة من يومه، ويتمتم لنفسه: “كل يوم نروي غير عطشان.. والله كريم”.

في حي آخر، يُفتح باب، يركض طفل نحو صوت الستوتة، وتخرج أم حاملة جالونها الفارغ. تمضي الحياة في بغداد، على عجلات الماء، وأمل لا ينضب.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى