السبعينية دنيا الشماع .. من حقول النفط إلى لوحات الفن: “العمر لا يوقف الحلم”

بغداد- موج إياد
في إحدى زوايا بيتها البغدادي، تجلس دنيا عبد الصاحب الشماع ذات السبعين عاماً وقد غدت جدران منزلها مزدحمة باللوحات التي أبدعتها أناملها بعد التقاعد. المرأة التي شغلت منصب معاون مدير عام في وزارة النفط، وقطعت مسيرة مهنية طويلة بين الحقول والمكاتب، قررت أن تمنح نفسها حياة ثانية، مفعمة بالرسم والموسيقى والصداقة.
تقول بابتسامة تعكس رضاها: “العمر أبداً ما يوكّف الحلم… كل يوم ممكن يكون بداية جديدة إذا الإنسان آمن بنفسه وبالله”.
تعود دنيا بذاكرتها إلى أيام الدراسة الثانوية، حيث بدأ شغفها بالرسم والموسيقى يتفتح. “لمن كنت بالثانوية كنت أحب الرسم، والوالد شجعنا وسجلنا بدورات كانت تُقام للطلاب وحتى للأطفال، مجانية أو بأسعار رمزية، وبيها اختلاط مع ناس يمارسون فنون مختلفة مثل الحفر على الطابوق أو الخط وغيرها الكثير”.
تلك الأجواء تركت في نفسها أثراً عميقاً وزرعت بذرة الإبداع التي لم تختفِ، رغم أن مسار حياتها قادها بعيداً عن كلية الفنون الجميلة التي حلمت بها. درجاتها في السادس الإعدادي أهلتها لدخول الهندسة، ووجدت نفسها أمام مفترق طرق. “كنت أريد الفنون بس الوالد گال خليها هواية وأكملي كلية، وفعلاً دخلت الهندسة، وگلت لنفسي أي مكان يخلوني بيه لازم أحبه”.
بعد التخرج انضمت دنيا إلى واحدة من أوائل دفعات مهندسات النفط في العراق، فدخلت الحقول النفطية إلى جانب زملائها الرجال متحدية ظروفًا لم تكن مهيأة لوجود النساء. “كنا أول وجبة بنات ينزلون للحقول. اشتغلنا، رفعنا راسنا، وأثبتنا وجودنا. الكل كانوا داعمين، وطلعت من التجربة ممتنة”.
اجتهادها أوصلها إلى منصب معاون مدير عام، لكنها لا تخفي أن شغفها بالعمل جعل العائلة في المرتبة الثانية أحياناً. تقول بصراحة: “يمكن هذا خطأ، بس حبي للشغل خلاني أركز عليه أكثر من أي شيء. والحمد لله كان عندي زوج متفهم سندني، وبنية وقفت وياي”.
بعد 2003، شهدت مشاركة النساء في قطاع النفط تقلّباً واضحاً بين التراجع والصعود، لكن قصص مثل دنيا تعكس الأثر العميق للجيل الأول من المهندسات اللواتي فتحن الطريق أمام الأخريات.
“أحلى عمر هو بعد الستين. حرية، ماكو مسؤوليات كبيرة، عندك وقت لعائلتك ولنفسك. لا مدير ولا تقارير، بس وقتك انت”.
في عام 2018، تقاعدت دنيا بعد مسيرة امتدت لعقود، لتجد نفسها في مواجهة فراغ كبير. “الوظيفة كانت تاخذ كل وقتي، ولما انتهت حسيت فجأة بفراغ هائل. بالبداية حاولت أفتح محل تجميل، وفعلاً فتحته كم سنة، بس اكتشفت إن هذا مو مجالي، إنما مجرد ونسة وصديقات”. ابنتها كانت أول من شجعها على البحث عن شيء يسعدها، فأعادتها إلى شغفها القديم. “گالت لي ماما لازم تلقين شيء يونسج”.
رجعت دنيا للرسم، دخلت دورات، ولقيت أجواء اجتماعية جديدة وصديقات لطيفات، وبدأت تتعلم مع الأستاذ عمر من الصفر. تصف لحظات اندماجها مع اللوحات والموسيقى وكأنها استراحة روحية: “أحط السماعات وأقعد أرسم. وأحياناً أبقى أنظر للوحة بالليل وأفكر: باچر لازم أعدل الشعر أو أضيف شجرة. الرسم يخليني أنسى الألم وأعيش بعالم ثاني”.
ولم يقتصر شغفها على الفن البصري، بل تعلمت أيضاً العزف على آلة موسيقية رغم كبر سنها. “من كان عمري 65 سنة سجلت دورة موسيقى. بالبداية اتعذبت لأن النوتة صعبة علي، بس ما يهم. أصرّيت، واللي يتعلم شي جديد بعمر كبير يحافظ على دماغه بعيد عن الزهايمر”.

ترى دنيا أن أجمل ما في هذه المرحلة هو العلاقات الإنسانية العميقة التي صنعتها. “بعد الستين الصداقة تصير أحلى. صارت عندي صديقات جديدات من جيلنا وجيل أصغر. نلتقي، نرسم، نحتفل بأعياد ميلاد بعض، ونتبادل الهدايا. هذي اللحظات هي اللي تنطي للحياة طعم جديد”.
وتضيف: “أحلى عمر هو بعد الستين. حرية، ماكو مسؤوليات كبيرة، عندك وقت لعائلتك ولنفسك. لا مدير ولا تقارير، بس وقتك انت”.
في حديثها لا تغفل دنيا دور الشباب، فهي تؤمن أنهم يحتاجون إلى من يشجعهم على الإصرار والمثابرة. “أگول للشباب: لا تخافون من تجربة أي شي جديد. لا تنسون القراءة، لا تنسون الكتابة. اكتبوا كل شي يضوجكم، راح تكتشفون الحل وأنتم تكتبون. ولا تنسون عوائلكم، العائلة تبقى السند الأول”.
وتختم برسالة مؤثرة: “أنا شاكرة لزوجي وبنتي اللي يوقفون وياي، وشاكرة رب العالمين قبل الكل. لو يرجع الزمن ما أغير طريقي، لأني راضية وسعيدة. وأتمنى لكل واحد يوصل لقناعة مثلي: العمر ما يوقف الحلم، والإنسان يگدر يبدأ من جديد بأي لحظة”.
من داخل المرسم، ورائحة الألوان تعبق المكان، تضع خالة دنيا آخر لمساتها على اللوحة الزيتية لتستمع إلى إطراءات المعلم عمر وزملائها. تسحب يديها من لذة الرسم، تعيد فرشاتها إلى الحقيبة المخصصة، تتوقف الموسيقى وتودّع اللوحات والجدران بابتسامة، لتذهب إلى أحضان العائلة أولاً، وتضع لوحة أخرى إلى جانب اللوحات المعلّقة. ها هي مجموعة كاملة من الألوان الجديدة تحتضن بعضها على ذاكرة جدران البيت البغدادي.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)



