زينب مهدي.. اهوارية تحلم بإنقاذ موطن اجدادها بالألوان

ذي قار- مرتضى الحدود

في بيتٍ صغير في أعماق أهوار الجنوب، تجلس زينب مهدي،بين ألوانها وأوراقها. المكان أشبه بمرسم بسيط من القصب، لكنه بالنسبة إليها مساحة تعبّر فيها عن بيئتها التي تتراجع مياهها عامًا بعد عام. هناك، لا يُسمع سوى صوت الريح القادمة من الهور، بينما ترسم أصابعها الصغيرة مشاهد من حياة أهلها ومياههم التي تتقلّص.

ورثت زينب حبّ الطبيعة منذ طفولتها، واعتادت أن تسجّل بريشتها تفاصيل الحياة في الهور: مضيف سومري من القصب، زورقٌ يجوب الماء، وطيور تحلّق فوق السطح الأزرق. تقول إن أحد السائحين صادف لوحة لها فأُعجب بها واشتراها، فكانت تلك اللحظة بداية إدراكها أن الرسم قد يكون أكثر من مجرد تسلية.

بدعم من والدها، الذي يوفّر لها الألوان والورق، خصّص لها مكاناً صغيراً من القصب ليكون مرسمها الدائم. هناك، جلست ترسم الزوارق وهي تبحر، أو وهي مركونة على اليابسة بعد أن جفّ الماء. ومع تفاقم الجفاف، تغيّرت موضوعات لوحاتها من مشاهد الجمال إلى توثيق المعاناة: طيور مهاجرة تغادر، وأسماك هالكة بفعل انحسار المياه.

وتمتدّ أهوار العراق في محافظات ذي قار والميسان والبصرة، وكانت لسنوات تعرف بأنها من أغنى الأنظمة البيئية في العالم. لكن خلال السنوات الأخيرة تراجعت مستويات المياه بسبب تغيّر المناخ وشحّ الإطلاقات المائية من دول المنبع، ما أدى إلى جفاف مساحات واسعة، ونزوح عدد من السكان الذين يعتمدون على الصيد وتربية الجواميس كمصدر رزق.

على طاولة خشبية صغيرة تضع زينب ذات الاثني عشر عاماً لوحاتها إلى جانب أقلامها وألوانها وبعض القواقع التي جمعتها من الهور. تقول بابتسامة طفلة وعيونٍ متحمّسة: “لم أكتفِ بالرسم فقط، بل بدأت ألوّن القواقع والمحار ليصبح لها طابع جميل يمكن للسياح شراءه. تتراوح أسعار اللوحات بين خمسة آلاف وسبعة آلاف دينار، والقواقع بين ألف وألفي دينار. أصبحت أعمالي مصدر رزق صغير يساعد أسرتي ويتيح لي مواصلة الرسم”.

وتضيف: “عملي ينشط أكثر خلال يومي الجمعة والسبت، حين يزداد توافد السائحين على الأهوار. أبذل جهداً مضاعفاً في الرسم والتلوين لأقدّم أعمالي بطريقة تجذب الزائرين وتعكس جمال هذه الأرض”.

يعيش معظم الأطفال في مناطق الأهوار بظروف اقتصادية صعبة، مع محدودية الوصول إلى المدارس والأنشطة الثقافية. لذلك، تبدو مبادرات مثل تجربة زينب نادرة ومُلهمة، إذ تعكس قدرة الأطفال على تحويل بيئتهم القاسية إلى مصدر إبداع وتعبير فني.

هناك لوحة تحكي حكاية زورق ينتظر الماء الذي جفّ وصيادين بملامح حزينة. شعرنا أننا لا نشاهد مجرد رسومات طفلة، بل شهادات حيّة عن واقع الأهوار اليوم

والدها، مهدي عوض الأسدي، يروي فخره بابنته قائلاً: “ابنتي تحبّ رسم الطبيعة منذ صغرها. ترسم كل ما يحيط بنا، وأنا أشجعها وأزوّدها بما تحتاجه من ألوان وأوراق لتبدع أكثر”.

ويتابع: “صنعت لها مكاناً من القصب لترسم فيه وتعرض أعمالها أمام السائحين، رغم ضعف إمكانياتنا. أجلب لها القواقع والمحار من الهور لتلوّنها وتحوّلها إلى قطع فنية صغيرة تبيعها للزوار”.

يتذكر الأب موقفًا ترك أثراً فيه: “في إحدى المرات كانت زينب مريضة، لم تستطع الخروج أو استقبال الزوار، لكنها جلست في مرسمها ورسمت لوحة عن الأهوار. شعرت وقتها أن الرسم بالنسبة لها لم يعد هواية، بل جزء من حياتها اليومية”.

زينب ليست وحدها في هذا الحلم. السائحون الذين يزورون الأهوار أصبحوا جزءاً من قصتها. يقول حسين العزاوي، أحد الزائرين: “دخلنا المرسم فاستقبلتنا بابتسامة خجولة. كانت تعرض لوحاتها وقواقع ملوّنة على طاولة خشبية بسيطة. وكان هناك لوحة تحكي حكاية زورق ينتظر الماء الذي جفّ، وصيادين بملامح حزينة. شعرنا أننا لا نشاهد مجرد رسومات طفلة، بل شهادات حيّة عن واقع الأهوار اليوم”.

منذ إدراج الأهوار على قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 2016، شهدت المنطقة زيادة في النشاط السياحي، خصوصاً في عطلات نهاية الأسبوع. يزور السياح المحليون والدوليون مناطق مثل الجبايش وكرمة بني سعيد لاكتشاف الطبيعة الفريدة وثقافة سكان الأهوار، ما وفّر فرصاً بسيطة لأبناء المنطقة، بينهم فنانين وحرفيين محليين، لتسويق أعمالهم اليدوية والفنية.

كامل السعدي، أحد السائحين، يضيف: “لم نأتِ فقط لالتقاط الصور، بل لنفهم المكان. هذه الطفلة كانت بالنسبة لنا مرشدة من نوع خاص، رسوماتها تشرح ما يعجز عنه الكلام. شعرنا بأن من واجبنا أن ندعمها، فاشترينا عددًا من لوحاتها وقواقعها الملوّنة، ليس فقط لأنها جميلة، بل لأنها تحمل رسالة بيئية وإنسانية”.

ويتابع السعدي قائلاً: “اتفقنا مع أصدقائنا على تعريف الناس بلوحات زينب ومشاركة صورها لتصل قصتها إلى أكبر عدد ممكن. نريد أن يعرف الجميع أن في الأهوار طفلة صغيرة تحاول أن تحافظ على هوية المكان بالألوان، وأن حلمها يحتاج إلى دعم”.

الزيارة التي رواها السائحون لم تكن مجرد نزهة، بل لقاء إنساني نادر مع واقعٍ بيئي صعب. في مرسمٍ بسيط من القصب على ضفاف الجبايش، أدركوا أن الفن يمكن أن يكون جسرًا بين عالمين: عالم الزائر الباحث عن الجمال، وواقع طفلة صغيرة تناضل لتوثّق وجع أرضها وتحوّله إلى أمل بالألوان.

من بين ألوانها وأوراقها، تبدو زينب مهدي شاهدة على تحوّلات الأهوار، ورسالة حيّة من طفلة أرادت أن تقول للعالم إن الجمال يمكن أن يولد من المعاناة، وإن لوحة صغيرة قادرة على أن تحكي وجع بيئةٍ بأكملها.

أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى