حين تتحول قناني الغاز إلى لوحات تنبض بالحياة بأنامل امرأة

مهدي غريب – بغداد
في عالمٍ يختنق بالنفايات، تحوّل ثائرة سعيدة القناني الفارغة إلى لوحاتٍ تزهر بالحياة، لتُثبت أن الفن قادر على إنقاذ البيئة.
في إحدى زوايا شقتها الصغيرة المطلة على الشارع العام، تجلس ثائرة سعيدة، الستينية التي كسرت القوالب المألوفة للعمر وللفن وللنظرة إلى البيئة.
لا ريشة فنية بين يديها هذه المرة، بل عبوة غاز معدنية فارغة، صدئة الأطراف، كانت يوماً مصدر طاقة وربما خطر، لكنها اليوم تتحول على يديها إلى منحوتة ملوّنة بالزهور والرموز الطبيعية، تُذكّر من ير اها بأن الجمال يمكن أن يولد من قلب الخطر.
تضحك ثائرة وهي تمسح آثار الطلاء عن يديها وتقول: “الناس يخافون من قناني الغاز، وأنا أراها فرصة للحياة. كل ما حولنا يمكن أن يتحول إلى فن إذا أحببناه وأعدنا اكتشافه”.
تعرف ثائرة أن البيئة في العراق لم تعد كما كانت. الأنهار تراجعت، والهواء أثقلته الأدخنة، والنفايات صارت جزءاً من المشهد اليومي، لكنها لم تستسلم لهذا الواقع. تقول: “حين أرى تلال النفايات، أشعر أن الفن يمكن أن يكون رسالة تنظيف للروح قبل الشوارع”.

من هنا بدأت رحلتها، رحلة بسيطة في ظاهرها وعميقة في معناها. لم تخرج تبحث عن المواد في الشوارع أو مكبات النفايات، بل وجدت ما تحتاجه في بيتها نفسه. في كل مرة كانت تستبدل فيها قنينة غاز قديمة بأخرى جديدة، ترسمها بالورد، حتى بات بائع الغاز المتجول يحتفظ بقنانيها المزخرفة بفخر.
تعاني المدن العراقية من أزمة نفايات متفاقمة، إذ تنتج البلاد أكثر من 10 آلاف طن من المخلفات يومياً، لا يعاد تدوير سوى نسبة ضئيلة منها. وتُلقى كميات كبيرة من النفايات في مكبات عشوائية داخل الأحياء أو على ضفاف الأنهار، ما يتسبب بتلوث الهواء والمياه وانتشار الأمراض.
تؤمن ثائرة أن الفن لا يمكن فصله عن الأرض التي يعيش عليها الإنسان، وتتحدث بحسرة عن التصحر المتسارع في العراق قائلة: “حين كنت صغيرة، كانت بساتين النخيل تحيط بمدينتنا، واليوم تحولت إلى أراضٍ جرداء. الأرض عطشى مثل الناس تماماً”.
وتشرح أن العراق كان يوماً من أغنى بلدان المنطقة بالخضرة والمياه، لكن سنوات الجفاف وتراجع الأنهار وغياب التخطيط جعلت مساحات واسعة تتحول إلى صحراء.
وتشير إلى إحدى لوحاتها المرسومة على قنينة غاز بلونٍ أصفر مائل إلى البني وتقول: “هذا اللون يمثل عطش الأرض. أحياناً أرسم الصحراء لأتذكر أننا نفقد أرضنا بصمت”.

ويعد العراق من أكثر الدول تأثرًا بتغير المناخ في المنطقة، إذ تفقد البلاد سنوياً نحو 250 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الزراعية بسبب التصحر وملوحة التربة وتراجع مناسيب دجلة والفرات. وتُقدّر وزارة البيئة أن أكثر من 40% من الأراضي العراقية مهددة بالتصحر إذا استمر الجفاف بالوتيرة الحالية.
من خلال أعمالها، تحاول ثائرة أن تزرع فكرة أن الفن يمكن أن يكون وثيقة احتجاج ضد الخراب البيئي، ورسالة بصرية تقول إن الطبيعة بحاجة إلى من يدافع عنها بالألوان، لا بالكلمات فقط.
وترى أن انعدام الوعي البيئي جفاف آخر لا يقل خطورة عن التصحر،”نحن نرمي النفايات في الشوارع، نحرق البلاستيك قرب البيوت، ونهدر الماء دون تفكير، ثم نشتكي من تلوث البيئة. المشكلة ليست في الطبيعة بل في سلوكنا”.
وتؤكد أن الوعي البيئي لا يجب أن يكون ترفاً فكرياً أو شعاراً موسمياً، بل أسلوب حياة يبدأ من البيت. وتضيف بثقة: “حين يرى الناس قناني الغاز في شرفتي ملونة ومزينة، يسألونني لماذا أفعل ذلك. أقول لهم ببساطة: لأن البيئة جزء من الجمال، وإذا لم نحافظ عليها سنفقد أنفسنا قبل أن نفقد الأرض”.
لا ترسم ثائرة فقط، بل تُعلّم وتؤثر. حتى الأطفال في حيّها صاروا يقلدونها، يرسمون على العلب المعدنية ويزينون الأواني القديمة بدل رميها. تقول: “حين وضعت أول لمسة لون على قنينة غاز، شعرت كأنني أزرع زهرة في أرض قاحلة”.
تنوّعت رسوماتها بين زهور برية عراقية وأشجار وحدائق، لتجعل من هذه العبوات الصدئة تحفاً فنية تحمل هوية المكان وروحه. بالنسبة إليها، هذه الألوان ليست مجرد زينة، بل فعل مقاومة بيئية، “البيئة في العراق بحاجة إلى من يدافع عنها، ليس فقط بالكلام، بل بالفعل. وأنا أستخدم الفن كوسيلة للتذكير بأننا جزء من هذه الأرض”.
عبوات الغاز التي تلونها ثائرة أصبحت رمزاً محلياً للوعي البيئي، وانتشرت صور أعمالها في مواقع التواصل الاجتماعي لتتحول إلى مثالٍ حي على أن التغيير يمكن أن يبدأ من أبسط زاوية في البيت.
تقول “أنا لا أريد أن أكون فنانة وحدي، أريد أن أجعل الناس يرون الجمال في الأشياء التي يظنونها بلا فائدة.” مشيرة إلى أن الفن لا يحتاج إلى قاعات عرض أو تمويل كبير، بل إلى نية صادقة ووعي بيئي. وقد استطاعت بالفعل أن تزرع هذا الوعي في محيطها الصغير، ليصبح بيتها مثالاً على أن التغيير يبدأ من الذات.
لم تكن رحلة ثائرة خالية من التحديات. في مجتمع يربط الكِبر بالعجز، أرادت أن تثبت أن العمر لا يطفئ الإبداع. تقول: “الكثير يعتقد أن الستين هي وقت الراحة، لكنني أراها وقت الإثمار. في هذا العمر أملك الهدوء لأرسم وأفكر وأمنح الأشياء معناها الجديد”. وبينما أقرانها يبحثون عن الراحة بعد التقاعد، كانت هي تبتكر لغة فنية جديدة تقول من خلالها إن الإنسان لا يشيخ ما دام قلبه يعمل من أجل الحياة.
في كل عبوة غاز من أعمال ثائرة، هناك حكاية بيئية: واحدة عن احترام الطبيعة، وأخرى عن نهرٍ ما زال يقاوم الجفاف بالأمل، وثالثة تحمل لون السماء التي تتمنى أن تظل صافية فوق العراق. وحين تُسأل عن أحلامها القادمة، تجيب بثقة ودفء: “أحلم أن أرى كل بيت عراقي يلون قنينة غاز قبل أن يستبدلها. اللون يغيّرنا كما يغيّر الحديد”.
من بيتها الصغير، ومن خلال لمسات بسيطة على معدنٍ بارد، منحت ثائرة سعيدة البيئة العراقية نَفَساً من الجمال، وزرعت في قلوب الناس يقيناً بأن الفن لا يشيخ، وأن الحياة تبدأ حين نقرر أن نراها بألوان جديدة.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)



