نساء خلف العدسة.. مهنة التصوير تفتح افاقا جديدة للعراقيات

فاطمة كريم – بغداد
من عدسة صغيرة بدأت بنين كاظم حكايتها، عدسة كانت تراها نافذتها إلى عالم واسع يمتلئ بالألوان والضحكات، وبين أناملها تحوّلت الكاميرا إلى رفيقة طريق توثّق لحظات الفرح وسعادة المحبين وتسرق من الزمن ابتسامات تبقى خالدة في ذاكرة المتزوجين.
بنين كاظم، فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، بدأت مشوارها في عالم التصوير قبل نحو ثماني سنوات. بدأ الأمر بشغف بسيط، ثم تحوّل إلى حلم، وها هي اليوم تقطف ثماره.

تقول: “كنت أصوّر لقطات بسيطة بواسطة الهاتف، وكنت دائماً أرى نفسي مصوّرة كبيرة أوثّق لحظات السعادة للناس”.
لكنّ الطريق لم يكن سهلاً. كانت العقبة الأولى داخل بيتها حين حاولت إقناع والدها بالسماح لها بممارسة التصوير، فالعائلة محافظة، ونظرتهم إلى المهنة لا تخلو من القلق والرفض.
تقول بنين: “أهلي عائلة محافظة ولم يكونوا يتقبّلون فكرة أن أخرج لتصوير الأعراس أو أعمل إلى ساعات متأخرة”.
وتستذكر بابتسامة فخر: “رأى والدي أن مهنة التصوير من أكثر الأعمال المناسبة للبنات لأنها لا تحمل مضايقات، خاصة أنني أعمل في تصوير الأعراس والحفلات النسائية داخل المنازل، واليوم هو من يشجعني ويشارك فرحتي بكل إنجاز”.

في السنوات الأخيرة شهد العراق حضوراً متزايداً للنساء في مهنة التصوير، خصوصاً في مجال الأعراس والمناسبات الخاصة، إذ تفضّل العائلات وجود مصوّرة امرأة حفاظاً على الخصوصية وراحة العرائس. وانتشرت الاستوديوهات النسائية في بغداد ومحافظات أخرى، وبدأت المصوّرات يقدمن أعمالاً احترافية تضاهي ما يقدمه الرجال بل وتتفوق أحياناً في التقاط التفاصيل والمشاعر التي لا تراها سوى عين امرأة.
تحولت المهنة بالنسبة لكثير من الفتيات إلى باب للاستقلال المالي وتحقيق الذات، خصوصاً في العوائل المحافظة التي ترى فيها مساحة آمنة لبناتها. فمع الوقت، صار اسم “المصوّرة النسائية” علامة ثقة تبحث عنها العرائس لتوثيق أهم لحظات حياتهن.
تقول بنين بثقة: “العوائل اليوم أصبحت تميل إلى وجود مصوّرة في حفلاتهم حفاظاً على الخصوصية والشعور بالأمان، خاصة في الأعراس النسائية”.
لا تكتفي بنين بالتصوير فحسب، بل تتحوّل أحياناً إلى جزء من المشهد، تساعد العروس في تعديل فستانها أو طرحتها، وأحياناً شعرها، وتضحك قائلة: “مرات كثيرة أكون أنا والمساعدة والعروس فقط، فأشعر أنني مسؤولة عن راحتها قبل الصورة نفسها”.
وترى أن سرّ الصورة الناجحة هو الثقة، “الحديث البسيط مع العرسان قبل التصوير يجعلهم أكثر ارتياحاً أمام الكاميرا وتخرج الصور بطبيعية وجمال”.

أما هاجر مرتضى، وهي شابة في الثالثة والعشرين من عمرها، فقد اكتشفت شغفها بالتصوير بين جدران كلية الإعلام في جامعة بغداد.
تقول: “لم أكن أتوقع أن مادة التصوير ستفتح أمامي طريقاً جديداً، لكن أستاذ المادة كان يشجعنا على التصوير الميداني، وكنت دائماً من أكثر الطلبة تفاعلاً معه”.
بدأت رحلة هاجر الحقيقية قبل عامين حين جمعت مبلغاً صغيراً واشترت كاميرا بسيطة. من داخل أسوار الجامعة، وكانت أولى تجاربها بالتقاط الصور للطلبة والأنشطة الجامعية.
وتكمل: “بعد تخرجي قررت أن أدخل مجال تصوير الأعراس داخل المنازل لأنها مهنة مريحة ومناسبة لي ولأهلي”.

لا تزال نسبة مشاركة النساء في سوق العمل بالعراق منخفضة مقارنة بالرجال، إذ تواجه النساء تحديات اجتماعية ومؤسساتية كبيرة. ومع ذلك، ازدادت في السنوات الأخيرة مبادرات تمكين النساء في المهن الإبداعية مثل التصوير، التصميم، والإعلام، خاصة في المدن الكبرى كبغداد والبصرة وأربيل.
توضح هاجر أن التصوير النسائي أصبح مساحة آمنة للنساء الباحثات عن الأمان قبل أي شيء آخر، إذ يجمع بين الاستقلالية والبيئة المريحة.
وتقول سارة أحمد، إحدى العرائس اللواتي فضلن مصوّرة امرأة: “أشعر براحة كبيرة عندما تتولى امرأة مهمة تصويري، فوجودها يمنحني حرية وطمأنينة أكبر”.

ورغم أن التصوير يبدو عملاً مليئاً بالألوان والابتسامات، إلا أن خلف العدسة تختبئ قصص صعبة. تقول بنين: “نفذت جلسة تصوير لعرسان كانوا في قمة السعادة، وبعد مدة علمت أن العروس توفيت. كان ذلك أصعب موقف مرّ علي في حياتي”.
تسكت قليلاً ثم تضيف: “انعزلت بعدها فترة طويلة عن العمل، لم أستطع النظر إلى الصور نفسها من شدة الألم، حين سلّمت الألبوم إلى زوجها كان يبكي بحرقة، ولن أنسى تلك اللحظة ما حييت”.

أما هاجر، فترى أن طموحها لم يتوقف بعد، إذ تسعى إلى افتتاح استوديو نسائي خاص تدير فيه فريقاً من المصوّرات الشابات: “أريد أن أدرب فتيات موهوبات ليصبحن مصورات محترفات، أفتح لهن الباب الذي فُتح لي يوماً”.
وتشاركها بنين الإيمان بأن الموهبة تحتاج إلى الشغف أكثر من الأدوات، قائلة بابتسامة هادئة: “أريد لكل فتاة أن تؤمن بقدرتها، لكن الأهم أن تدخل هذا المجال بحب حقيقي، لأن الصورة لا تنبض إلا إذا التقطها قلب يحب ما يفعل”.

في السنوات الأخيرة، أصبحت مهنة التصوير النسائي في العراق رمزاً لتحوّل اجتماعي هادئ تقوده نساء شابات، يجمعن بين الفنّ والاستقلال الاقتصادي، في مجتمع لا يزال ينظر بريبة إلى عمل المرأة في المجال العام، لكن عدساتهن أثبتت أن الإبداع يمكن أن يكون أيضاً رسالة تحرّر.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)



