مدخنو (أكتمار) الذين أنقذوا الموتى (1)

اطلق رجال “الدفاع مدني” الوحيدون في الجانب الايمن، صافرات الانذار وهم يقودون شاحنة حمراء بالية ويمرون خلال ركام مدينتهم.

انه صباح 16 نيسان/ابريل 2017، ترأسوا قافلة صغيرة على طول الطرق المحفورة بالقنابل والتي اغلقتها جزئيا المباني المدمرة، اذ كان القتال قد انتهى في هذا الحي السكني، والسيارات الأخرى الوحيدة المنتشرة متفحمة او معجونة.

اوقفتهم حفرة هائلة في الطريق، ترجل رئيسهم العقيد ربيع إبراهيم حسن (47) عاما، على جانب الطريق غير المعبد. سرعان ما تبعه رجل نحيف يدعى محمد شعبان، يتحدث بخشونة، وكان يمسك بإحكام بمفكرة صغيرة. ثم تبعهما اخرون، بدأوا بتوجيه الرافعة والجرافة التي بدت كبيرة جدا للمرور بين المباني.

ورغم ان المطر أنهمر في الأسابيع الماضية، لكن هذا اليوم كان جافاً ودافئاً، لا تزال نسمات الهواء تغمرها رائحة الجثث. وبينما كانوا يهمون بالسير، أخرج الرجال أقنعة رخيصة تستعمل للعمليات الجراحية أو كمامة، وغطوا وجوههم فيها.

توقفوا أمام كومة أنقاض وقبضان حديدية هي بقايا منزل ذي طابقين مطلي باللون الوردي. وكان إطلاق النار، وارتطام قذائف الهاون بالأرض تدوي بصوت مرتفع في هذه المنطقة، اذ كانت القوات العراقية تستعيدها من “داعش” بعد 3 سنوات من سيطرة التنظيم عليها تقريبا. لا أحد ينتبه الى الضجيج الذي استمر لأشهر عدة.

‘‘صنارة الجثث‘‘

في المقدمة كان رجل يدعى صالح جمعة، خبير في فريق إزالة المتفجرات، ومشجع متحمس ومشهور، يلقب بـ “الرجل القوي”. رغم انه يبلغ من العمر (43) عاماً، الا انه قادر على رفع الكتل الخرسانية التي لا يقوى على حملها الآخرون.

طرد جمعة كتلة من الذباب تحط على جثة مقاتل من “داعش”، نصفها مدفون في الركام، والنصف الظاهر يبرز معطف أزرق اللون ملطخ، بينما الوجه مهشم ومتورم.

تسمَّر جمعة عندما لاحظ أجهزة التفجير الانتحارية مربوطة بحبل تفجير أصفر، وملتفة حول خصره. وصاح بأعلى صوته: “احذروا. إنه يرتدي حزاماً ناسفاً”.

تراجع رجال الإطفاء إلى الوراء ولكن ليس بما فيه الكفاية لكي يكونوا آمنين، ومن ثم تشاوروا لبرهة من الزمن.

عاد جمعة، فكشف الجثمان وربط حبلا بكاحليه ثم ربط الطرف الآخر بصنارة الرافعة.

شاهدوا الجثمان يرتفع ببطء الى الأعلى، تدلى في الهواء متجاوزا أسلاك الهاتف، ومن ثم انزلت الجثة في باحة المنزل عبر الشارع.

هنا بدأ العمل الحقيقي، لم يكن مكافحة نيران، انما تهشيم الكتل الخرسانية بالجرافة وتقطيع حديد التسليح، كلما رفعوا المزيد من الكتل اقتربوا أكثر من الهدف، كانوا يشمون رائحة كريهة، تنبعث من جثث عائلة سحقت تحت الأنقاض.

 

‘‘ذقون ضد التنفس‘‘

عندما وصلتُ إلى الموصل في نيسان/ابريل الماضي كانت وحدة العقيد حسن تتألف من 12 رجلاً فقط. هؤلاء تم اعادة تجميعهم في المناطق المحررة من “داعش” بالجانب الايمن، ثمة طواقم أخرى من خارج المدينة انضمت إليهم فيما بعد. وبينما يحل العام الجديد ما زالوا ينتشلون الجثث من تحت الأنقاض.

تبلغ اعمار معظم الرجال نحو 40 عاماً، ولكن وجوههم توحي أنهم أكبر سناً. عندما التقيتهم، كانوا يرتدون ملابس متطابقة، وقبعات بيسبول تغطي رؤوسهم التي يغمرها الشيب والصلع. وكانوا يدخنون سجائر تدعى (أكتمار) واطئة الكلفة، وكان كل واحد منهم يملك عدة ابناء.

معظمهم يعمل في الدفاع المدني منذ سنوات طوال، وبعضهم عملوا خلال الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وفي السنوات التي سبقت سيطرة داعش على الموصل عام 2014، وكانت جُلّ اعمالهم تتركز على معالجة حرائق المنازل، فضلا عن حطام السيارات والحرائق الصناعية، والسيارات المفخخة في بعض الأحيان.

قال حسن “كان هناك المئات من رجال الاطفاء و(184) سيارة موزعة على جانبيّ المدينة”. ويحصلون على راتب يبدأ من (800) الف دينار شهرياً.

بعد ان سيطر التنظيم على المدينة اقتحم عناصره مراكز الدفاع المدني، وفصلوا الضباط وأمروا رجال الاطفاء الاخرين بالبقاء في مواقعهم، رغم توقف رواتبهم التي تؤمنها الحكومة.

فر الكثير منهم، وبقي البعض الاخر. وكانت المبررات التي يسوغونها بسيطة. فسر شعبان ذلك، عندما قال “كنا نفكر، ماذا لو كان هذا الحريق أو هذه الغارة الجوية حدثت لعائلاتنا؟”، كان الرجل يمسُك بإحكام على دفتر الملاحظات. وأضاف “لم يكن هناك أي شخص آخر للمساعدة”.

لقد عملوا في وظائف أخرى لمواجهة متطلبات الحياة. عمل شعبان، الذي يحمل شهادة في المحاسبة، بالأجر اليومي. وقال : “لا اخجل إذا ما شاهدني اصدقائي وانا اقوم بهذا العمل. العار الكبير ان تذهب إليهم وتطلب المال”.

بينما كان جمعة يصطاد السمك في نهر دجلة، ويعمل الأخرون في المخابز أو بيع القهوة من الأكشاك الصغيرة في الشوارع. لم يكن ما يحصلون عليه يسد رمق معيشتهم. لقد عانوا كثيرا في سبيل توفير متطلبات أُسرهم.

اجبر التنظيم جميع الرجال على عدم حلق ذقونهم، لذا فان رجال الاطفاء اكتشفوا بان لحاهم الطويلة تمنع ادوات التنفس من ان تلتصق بشكل محكم على وجوههم.

‘‘عناق من دون شاي‘‘

بدأت عملية استعادة الجانب الايمن في شباط 2017، معظم الرجال كانوا محاصرين في مناطق سيطرة داعش. شعبان أول من هرب إلى منطقة تسيطر عليها القوات العراقية، وتبعوه واحداً تلو الآخر. لم يكن لديهم أية أوامر رسمية للقيام بالعمل، ولا محطة للإطفاء يستقرون فيها، ولا يملكون المركبات اللازمة، لكن بمجرد أن استعاد الجيش الحي من سيطرة التنظيم، تجمعوا وبدأوا في عمليات الحفر بالأدوات اليدوية.

تعرضت محطات الإطفاء الثلاث لأضرار أو دمرت بشكل كامل في الحرب، ولذلك اتخذوا مقراً لهم في بناية غير مكتملة لمديرية التربية، أربع غرف ذات جدران ألمنيومية بالية ونوافذ لا يغطي الزجاج الا نصفها.

اول يوم يعملون فيه بشكل رسمي كان (14) نيسان الماضي. تجمع ثمانية منهم في وقت مبكر، حلقوا ذقونهم وارتدوا ملابس موحدة نظيفة. لم يكن لديهم أي معدات تقريبا، ولذلك وقفوا وانتظروا طاقم الدفاع المدني القادم من حمام العليل (30 كم) جنوب الموصل، لتسليمهم سيارة بديلة.

تعانق الرجال، ثم بدأ الواصلون بتسليم المعدات، أدوات القطع باستخدام الغاز والمعاول والمطرقة الكهربائية (جك همر) والمولدات المحمولة.

كان فريق العقيد حسن ممتنا للإمدادات التي قدمت لهم، ولكنهم يشعرون بالحرج لعدم القدرة على تقديم الشاي لضيوفهم، فلم تسلمهم الحكومة العراقية رواتبهم منذ زمن طويل، ولذلك كانت الحاجيات الأساسية شحيحة. عندما يحتاجون مياه الشرب، يذهبون الى عربات “هامفي” المدرعة المخصصة لنقل الذخيرة اثناء القتال او إخلاء الضحايا، أملاً منهم بان الجنود سيجودون عليهم بما عندهم.

قاد العقيد حسن فريقه كأنه مدير مدرسة فائق الاهتمام، كم كان يتألم لعجزه عن توفير متطلباتهم الاساسية. يقول: “لدى الجيش كل شيء، الغذاء والذخائر والمعدات، كل ما يطلبوه سيكون لديهم عشرة منه. نحن ليس لدينا أي شيء، اننا مهملون”.

‘‘دفتر ملاحظات يشبه مقبرة‘‘

انتشر خبر افتتاح المقر الجديد، لذلك قدمت العائلات المنكوبة طوال اليوم إليهم وطلبت من رجال الاطفاء ان ينتشلوا جثث ضحاياهم. بحلول وقت الظهيرة، وصل اثنان من الأولاد المراهقين المتجولين، وشرحوا بهدوء بأن عائلة عمهم قد دُفنت نتيجة غارة جوية قبل أسبوع.

أصغى شعبان اليهما، ثم رفع قبعته التي سويت شعره الخفيف، وطلب منهم الاقتراب، دوّن التفاصيل على مكتبه الخشبي الذي كان كبيراً جداً مقارنة بحجم الغرفة، وكانت اللوحات لمناظر الطبيعة المثالية تعلو كتفيه على الجدار. اعطاهم وعداً بقدوم الدفاع المدني بأقرب وقت.

عندما غادر الشباب، أظهر لي دفتر الملاحظات، كان يحتوي في داخله (190) أسماً مكتوبة بدقة. كل اسم فيه يمثل جثة انتشلها هو وزملاؤه من تحت الأنقاض خلال الشهر الماضي.

قال: “لم يطلب مني أحد ان اقوم بذلك، لكني أعلم اننا سنحتاج اليه يوما ما”.

بعد يومين، وصل رجال الدفاع المدني إلى العنوان الذي قدمه الشابان، كان منزلا مدمرا بالكامل تقريبا بسبب غارة جوية، على الأرجح، واحدة من خمس ضربات نفذها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في ذلك اليوم. وقد نجا الاب أحمد خلف (51) عاما، وابنه عمر (23) عاما، وزوجته التي أصيبت بجروح خطيرة جداً. وقد لقي تسعة من أفراد عائلته الذين تتراوح أعمارهم بين (6) و (44) عاما، حتفهم، بمن فيهم بناته الثلاث وابنه وشقيقاه.

‘‘رفع اليد المقطوعة فغطى خلف عينيه‘‘

جلس خلف خارج المنزل، والسترة منسدلة على كتفيه، بينما كان يعمل رجال الاطفاء. ذراعه مصابه نتيجة القصف، ومربوطة الى الامام من جسده. وقف عمر بهدوء في مكان قريب، وبدأ يرمق ببصره.

لم يكن هذا منزلهم، ولكن خلف أخذ عائلته اليه عندما بدأ داعش بتجميع السكان المحليين لاستخدامهم دروعا بشرية. فاختبأوا فيه لعدة أيام يستمعون إلى صوت الانفجارات وإطلاق النار.

وفي صباح يوم (8) نيسان، لم يشاهدوا المسلحين لعد ساعات، لذا حزموا امتعتهم القليلة واستعدوا للتحرك. وفي حوالي الساعة (9:30) صباحاً، حدقّ خلف إلى الزقاق لإلقاء نظرة نهائية، وفجأة تداعى المبنى خلفه اثر ضربة جوية.

“فتحت باب المطبخ لمعرفة ما اذا كان هناك داعش. سمعت فقط صوت (ووش)، ثم دفعني الهواء وسقطت على الارض”، يقول الاب المفجوع.

لم يُشاهد عندما بدأ الدفاع المدني برفع الأنقاض في المنزل المدمر طبقة تلو الاخرى. جمعة في المقدمة، بعد (26) عاما من العمل، لا يزال يحضر كل مهمة كلما كان قادراً على ذلك. شرح ذلك فيما بعد بقوله: “هذا واجبي. لا أستطيع ان أتوقف عن الذهاب”.

في نهاية المطاف، رفع ستة منهم قطعة خرسانية بحجم طاولة الطعام. وجد رجال الاطفاء تحتها حشية الفراش، وبقايا بالية من الملابس، ومن ثم اللحم والعظام.

صاح أحدهم بأعلى صوته “انه رأس”. بعدها التقطوا كيسا ازرقا مخصصا للجثث من كومة أكياس مطوية بعناية، ووضعوا بقايا الرفات في داخله.

وبعد بضع دقائق، اقترب جمعة من خلف، ومن دون ان ينطق باي كلمة رفع اليد اليسرى الصغيرة المقطوعة المغطاة بالأتربة من تحت المعصم. تعرف عليها خلف وقال: “انها ابنتي حنين”.

سأله جمعة عن عمرها؟ فأجاب: “عشرة”.

لبرهة من الزمن، لم يكن للاب اي ردة فعل. الا انه وضع يده على وجهه بصمت، بينما كان جمعة يُلملم يد حنين ويضعها في كيس آخر.

دوّن شعبان اسم الفتاة الميتة في مفكرته. هز رأسه وقال “هذا هو عملنا اليومي”، الرقيب الذي يعرف بصاحب “القلب الحنون”، بدا وكأنه يعيش هذه اللحظات أكثر من الآخرين، وسرعان ما أجهش باكياً.

انسحب الدفاع المدني بهدوء بعد انتشال آخر الجثامين. صعد خلف على سلم المنزل العلوي وبدأ يحدق في المكان بعين حمراء تغمرها الدموع. وتبعه عمر حاملاً بين كفيه كيسا بلاستيكيا شفافا، يحتوي على بعض مقتنيات شقيقاته المدخرة: صندوق مجوهرات، ونظارات شمسية بلاستيكية، وسلاسل من الخرز الملون.

ركب رجال الاطفاء شاحناتهم وتوجهوا عائدين الى القاعدة. وهم يمرون ناداهم المواطنين، مشيرين إلى المباني المدمرة، يصرخون بأن هناك جثث تجثم أيضاً.

المصدر:
https://www.gq.com/story/men-who-rescue-mosul-dead

مقالات ذات صلة

‫74 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى