المندائية.. لغة لا يتكلم بها سوى خمسين شخصاً في العراق

المنصة- مرتضى الحدود

يخشى الشاب الصابئي أسامة كريم من أن تندثر اللغة المندائية تماماً من العراق قبل أن يتمكن من تعلمها، فمتحدثوا المندائية وهي واحدة من أقدم لغات المنطقة الساميّة لا يتجاوز عددهم اليوم الخمسين فرداً داخل البلاد.

قبل عدة سنوات تعلم أسامة (30 عاماً) حروفاً بسيطة من لغته الأم، فكان واحداً من بين 20 طالباً صابئياً يرتادون إحدى قاعات المندي وهي دار عبادة الطائفة في محافظة ميسان، يعلمهم رجل دين حروف اللغة وقواعدها الأساسية وتصاريف الأفعال، إلا أن قصر مدة الدورة وعدم انتظامها حال دون استمراره في التعلم.

يقول أسامة إن هذه اللغة ذات أحرف بسيطة وكلمات سهلة التعلم وإن “بعض كلمات الدارجة العراقية هي بالأصل مندائية مثل كلمة “جا” والتي امتاز بها أهالي جنوب العراق”.

رئيس مجلس إدارة طائفة الصابئة في ذي قار سامر نعيم يؤرخ لغتهم بأنها “تعود إلى آرام بن سام لذا سميت باللغة الآرامية أيضاً، وإنها لغة وادي الرافدين وذات كلمات أصيلة غير هجينة مكونة من 24 حرفا تبدأ بحرف الألف وتنتهي بالألف”.

اللغة الآرامية حسبما يقول “سامر” تمتلك قواعد نحوية متكاملة ففيها الحرف والفعل والاسم وهي على حد اعتقاد الصابئية “أول لغة منظمة ما بعد اللغة السومرية واللغات الصورية الأخرى في ذلك الوقت.. وهي لغة أصحاب عالم النور الأرواح بعد مماتهم حسب ما ذكرت مصادر الصابئة”.

هذه اللغة الدينية بات منحسرة ان لم تكن مندثرة فلا تجدها متداولة بين الجميع وحتى ما بين أبناء الطائفة واقتصرت على بعض رجالات الدين والاختصاصيين من الأكاديميين ويعود السبب في ذلك على حد قول زعماء الطائفة لعدم التعاون الحكومي والمنظمات الدولية في الحفاظ عليها من الاندثار.

رئيس ديانة الصابئة المندائية في العراق الشيخ ستار جبار حلو يؤرخ انحسار اللغة بشكل واضح في ستينيات القرن الماضي “لعدم وجود الأعداد الكافية من رجال الدين والاختصاصيين من الأكاديميين للقيام بمهمة التعليم والتدريس”، ويضيف أن “الحكومات في الحقبة التي سبقت عام 2003 لم تكن متعاونة في مجال إدخال هذه اللغة ضمن المنهج الحكومي، ولو في عدد من المدارس أو بشكل محدود”.

ويشير رئيس الطائفة إلى أن عدداً من المختصين أنشؤوا عام 1989 قاموساً خاصاً باللغة المندائية وبتمويل ذاتي ومنهجية دراسية بسيطة لتعليم أبناء الطائفة، حتى وصل عدد الطلبة في عام 2001 إلى ما بين 450 الى 500 يتكلمون اللغة المندائية، “لكن وبسبب الظروف التي مرت بها البلاد منذ عام 2003 حصل ركود في أنشطة التعلم”.

وبحسب كلام “حلو” نشطت في العام 2000 حركة ترجمة من اللغة المندائية الى العربية ليتم ترجمة عدة كتب دينية لدى الطائفة ومنها “الكنزا ربا” و”تعاليم النبي يحيى عليه السلام” و”كتاب الصلوات” وغيرها.

وبلغ تعداد الصابئة الذين يسكنون العراق حاليا 15 ألف صابئي منهم 40 إلى 50 رجل دين وأكاديمي ممن يتكلم اللغة بجميع مفرداتها وقواعدها أي بنسبة تبلغ الثلاثة بالألف منهم فقط.

زعيم الطائفة كشف عن جهود تبذلها القيادات الدينية من أجل إحياء اللغة من خلال اكثر من طلب رسمي تم إرساله الى اليونسكو أو إلى الحكومة ولكن دون جدوى، ويضيف “ما نقوم  به حالياً هو دورات بسيطة لتعليم الأطفال في المندي”.

ويصف خبراء اللغة واللسانيات اللغة المندائية بانها “لغة ميتة” لعدم استخدامها في الأوساط العامة كما هو الحال في اللغة العربية.

اختصاصي اللسانيات د. سعيد ياسين يعزو موت اللغات إلى “اختلاط شعوب وثقافات متعددة وتغير الظروف السياسية الذي لا يمكّن بعض اللغات القديمة من المقاومة والاستمرار كما حصل عندما دخل العرب الى العراق وبلاد الشام وحملوا معهم لغتهم لذا اصطدمت اللغة العربية مع اللغات الموجودة”، ويتابع: “فرض اللغة العربية داخل الوظائف والأعمال وكونها لغة مقدسة ايضاً عند المسلمين أبقاها موجودة و انتصرت وحافظت على وجودها”.

ويشرح أن كل لغة تمتلك عدة مستويات “منها الصوتي والتركيبي والصرفي المعجمي وبمرور السنوات تجد أن اللغة انتقلت الى مرحلة جديدة فتموت لتحيا مكانها لغة أخرى كما حصل في اللغة اللاتينية نهاية القرن الرابع عشر لتموت وتحيا مكانها لهجة فلورنسا والتي هي اللغة الإيطالية لتصبح بعد ذلك اللغة اللاتينية لغة مقدسة”.

اختصاص علم اللسانيات يستبعد إمكانية إحياء اللغة المندائية “فإعادتها الى الحياة يتطلب جهوداً كبيرة ومدارس عديدة للتعليم وهذا الشيء غير ممكن والتاريخ العلمي والمثبت يؤكد انها اللغة المندائية استمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر”.

وطبقا لمفاهيم منظمة اليونسكو فإن اللغة التي لا يرتقي عدد متحدثيها الى 1000 شخص تعتبر لغة مهددة بالانقراض، وبذلك فإن اللغة المندائية أو الارامية في العراق دخلت طور الاندثار.

أحد رجالات الدين الصابئة الشيخ الترميذا نظام كريدي الصباحي من سكنة محافظة ميسان يجد أن اللغة المندائية باقية طالما يتحدث بها رجال الدين في العراق وأنها انتعشت في دول أوربية لقيام أبناء الجالية الصابئة هناك بفتح مدارس لتعلمها قراءة وتفسيراً وشرحا، واستدرك قائلاً “إن تخصيص مدرسة في العراق شبه مستحيل لعدم الاستجابة لتلك المطالب”.

أما”أسامة كريم” الذي يحاول اليوم تعلم لغة أجداده فيؤكد أن هذا الحلم سوف يبقى حبيس أدراج المعنيين من المؤسسات الحكومية والمنظمات الدولية، ويحملها مسؤولية الحفاظ على هذا الإرث الثقافي المهدد بالزوال.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى