الموصل: عودة هادئة للحياة

نوزت شمدين- الموصل

يكسر صرير الباب الحديدي صمت الليل الثقيل. تجفل القطط المترقبة. تتقوس أبدانها مستجيبة لنداء الخوف وتقفز بنحو جماعي إلى الخلف.

ينفرج البابُ عن أبو أحمد الپاچچي، يغمر ضوء مطعمه الزقاق في المدينة القديمة، كاشفاً عن الفراغ الذي أحدثتهُ الحرب في المساحة المقابلة، ويرسلُ إشارة فنارية إلى زبائنهِ الذين سيتقاطرون إلى المكان في الساعة التالية، من أجل الپاچة، تلك الأكلة الصباحية التي تشتهر بها مدينة الموصل وتتألف من رؤوس وأرجل وأحشاء الخراف.

سمكة الرزق

إنها الثانية بعد منتصف الليل وقد اطمأن أبو أحمد إلى نضوج أحشاء خمسة خراف مع رؤوسها. يقلبها الآن غليان الحساء بوداعة في قدرٍ سعتهُ ألف لتر. “القُنبلةُ الأولى في الحرب، سقطت على الوقت” يردد مع نفسه مقولة دارجة في السوق لشاعر مجهول تعبيراً عن الأوقات التي بددتها الحروب المتعاقبة في العراق خلال أربعة عقود مضت. يتلفت رأسهُ في الاتجاهين مثل رادار، مترقباً سماع وقع أحذية أبنائه الثلاثة وهم يجرّون أنفسهم بكسل من فم النعاس.

“لا جدوى من تذكيرهم، أن لا بركة في أيام هذا العصر. والتأخر عن ساعة عمل، يعني ترك سمكة رزق، تعود إلى مجرى النهر”.

يهز رأسه وكأنه يؤكّد على ما قاله، ويستديرُ ليأخذ عمود الكراسي البلاستيكية البيضاء المتداخلة والمحشورة في زاوية مطعمه الصغير، ليوزعها في الخارج كما فعل لأكثر من نصف عمره الذي جاوز السبعين. لكنه يتذكر إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، فيسحب يديه. يضعهما على خصره ويرسم على وجهه ابتسامة ساخرة، سيترجمها أي من أولاده فور أن يلمحها “الأغبياء فقط، يؤمنون بوجود هكذا مرض”.

يأخذ قطعة القماش الزرقاء المبتلة بالمياه، يمسح بها الطاولات الرفيعة العالية ذات الأسطح المعدنية، يأخذها واحدة تلو الأخرى، يراصفها في خط مستقيم وسط الزقاق الذي أوصدت حرب التحرير مدخليه بأنقاض الأبنية.

طابور الصباح

هناك في ذلك الحي العتيق أو ما تبقى منهُ والذي يعرفه الأهالي بـ “الميدان” حيث يقع مطعمُ أبو أحمد، لفظ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أنفاسه الأخيرة منتصف 2017. ومازالت جثث عناصره تحت ركام الأزقة الأخرى التي كانت قبل تسوية بيوتاتها المتقابلة بالأرض، دهاليز تشكل ما يعرف في الموصل بالمدينة القديمة.

يأتي الأبناء الثلاثة تباعاً. الأكبر، الأوسط، ثم الأصغر. تستعيدُ القطط أمكنتها على بعد أمتار، محافظة على مسافات التباعد القططي. تراقب تشكل طابورِ سائقي سيارات الأجرة بين الموصل وبغداد، أول الواصلين وبأيديهم أطباقهم الخزفية وفيها تلالُ خبز التنور المثرود.

يتابعُ المتواجدون في المقدمة بعيون جائعة، أعمدة البخار المتصاعدة من القدر ورؤوس الخراف التي تطفو لثوانٍ كأنها تُلقي نظرة عليهم بأعينها المفتوحة على وسعها، ثم تغوص.

ينسى الواقفون أمر التباعد الاجتماعي ما أن يلتحق بهم سائقو شاحنات النقل الذين يتمطى الطابور بكروشهم المترجرجة حتى يختفي في عتمة الزقاق. يجذبهم مغناطيس الحديث عن مشاكل العمل. لقد سُرح الكثيرون منهم لتوّهم من جيش البطالة، لكنهم يواجهون مشاكل لا حصر لها.

تزعجهم كثرة المعروض من المركبات وقلة الطلب من الركاب. يتهامسون بشأن نقاط تفتيش الميليشيات والأتاوات التي تتقاضاها من المواطنين في الطرق الخارجية.

عودة هادئة للحياة

يتجرأ أحدهم ويقول بأن الميليشيات حلت محل “داعش” وهي لا تختلف عنه بشيء “تتراوح قيمة الأتاوة المفروضة على كل سائق من 100 إلى 500 دولار بحسب حجم الشاحنة والبضاعة التي فيها”.

يلوك آخر قطعة خبزٍ ويقول بأن أهل الموصل لا يسافرون كثيراً إلى بغداد كالسابق، بسبب نظرة عناصر الأمن المتشككة إليهم. “ماذنب السكان إذا فرت قوات الأمن من المدينة في 2014 وتركت أهلها أسرى بأيدي عناصر داعش؟”.

يعم الصمت، يستذكر الإثنان، مجريات صراع بين قوى سياسية محلية وقيادات أمنية مرتبطة ببغداد، أحدثت فجوة كبيرة تسلل من خلالها داعش وفرض في النهاية سيطرته على الموصل وكان ثمن استعادتها منه بين سنتي 2016 و 2017، حرباً أحدثت خراباً هائلاً.

أول حبل بمبار

يحاول زميل لهما قلب موجة الحديث خشية أن تكون هناك آذان متلصصة. فأجهزة الأمن يمكن أن تعتقل أي شخص لمجرد نقدٍ يوجههُ للسلطة. يلفت انتباههما وهو يبتلع ريقه إلى دقة مواعيد أبي أحمد “إنها الثالثة تماماً وقد أخرج أول حبل بمبار (أمعاء الخروف محشوة بالأرز)”.

تتطلع العيون نحو المقدمة، يبتعد أول زبونٍ عن القدر متوجها بفرحٍ نحو الطاولات، قابضاً بيديه على طبقهِ الممتلئ. تمر الدقائق. يتقابلون وقوفاً، تفصل بينهم ستارة من الأبخرة المتمايلة. في حين أن طابورًا آخر يتشكل من سائقي النقل الداخلي ومنتسبي الشرطة وموظفي الدوائر الحكومية.

تدرك القطط بأن الوقت قد حان، فتدور بين الأرجل باحثةً عن أول من سيفتتح حسنات يومهِ بقطعة لحمِ أو عظمة يلقيها. يُسمعُ في البعيد قرعُ أنابيب الغاز، يُعلن به بائعٌ جوال بدء مشوار دورانهِ في الأحياء.

ستلتحق به بعد قليل وبما يشبه المهرجان، أرتالُ عربات الخضار وصهاريج النفط الأبيض الصغيرة وفي أثرها قطعان الخراف والأبقار، يفرغ لها الرعاة ما في أجواف حاويات النفايات ويفرشونها على الأرصفة.

بعد الرابعة، يتوافد صبيةُ لحجز أمكنتهم على جوانب الطرق الرئيسية، محاطين بعبوات البنزين البلاستيكية. ينفشُ ديكٌ ريشه ليدوزن فحولته بصيحة طويلة، تسري عدواها في ديكةُ المدينة بأسرها.

“أصبحت الموصل قرية كبيرة”، يقول أبو أحمد ويهوي بالساطور على رأس آخر خروفٍ انتشله من القدر ويضع نصفه في الطبق. يتفق معه الزبون وهو يعصر بيده نصف ليمونة ويحركها بنحو دائري فوق قطع الخبز الغارقة بالحساء، “أصبحت فعلاً مكاناً ريفياً، لا كهرباء، لا مستشفيات، لا سينما، لا قاعة فنية، لا جسور، لا شوارع معبدة، لا شبكة مجاري…” يقاطعهُ أبو أحمد ممازحاً وهو يدفع طبقه بيده “ولا بمبار إضافي”.

أصوات الفجر 

ينطفئ الضوء، يتخبط الأبناء الثلاثة الغارقين في الظلام ببعضهم في الداخل، تمر ثوانٍ قبل أن يعثر واحدٌ منهم على مصباح الطوارئ المنضدي، تظهر الوجوهُ مجدداً، ثلاث نسخ متكررة من وجهِ الأب المستند بيديه على حافة القدر.

سينتظرون عشر دقائق لكي يسمعوا صوت محرك مولدة الكهرباء الديزل التي ستعيد لهم الضوء، كما فعلت لنحو ثلاثين سنة في طول البلاد وعرضها.

يتراجع آخر زبون عن وضع اللقمة في فمه ويقول بغيظ “دولة فاشلة، اللصوص المستولون على السلطة سرقوا مئات المليارات من دولارات النفط والنتيجة أن في مدينتنا ألفا مولدة، تبيعنا الكهرباء وتسقف شوارعنا بأسلاكها العشوائية وتلوث الهواء بعوادمها”.

يسعل أبو أحمد في مرفقهِ ويغمض عينيه المتعبتين فجأة، بسبب توهج أضواء مصابيح السقف. تُصدر مكبرات الصوت في الجامع القريب، فرقعة تجفل منها القطط المتخمة والمستلقية بوداعة تحت الطاولات. لكنها تعرف بأن هذا مقدمة لما سيحدث لاحقاً، تنتصب آذانها مع ارتفاع صوت الآذان، تعتاد عليه بسرعة، ثم تلقي رؤوسها على الأرض وتغرق في النوم.

ترتفع ستارة العُتمة شيئاً فشيء، تنتفخ كرات الخبز في تنانير الأفران وتعود لتندرس مستقرة على أشكالها الدائرية، تلتقط الأيادي رزماً منها وتنسحب مختفية في الأزقة والأفرع الداخلية للأحياء السكنية.

عودة هادئة للحياة

المدينة تستيقظ

ينمو تجمعُ عمال البناء مع معاولهم ومطارقهم، على الرصيف القريب من تل التوبة، مازالوا يشعرون بغرابة أن لا تقع أعينهم على جامع النبي يونس الذي كان مبنياً فوقه، إذ فجره تنظيم داعش في تموز/يوليو 2014.

تقف شاحنة صغيرة، يهرولون ناحيتها وفي الطرف الآخر من الشارع، تمر سيارة شرطة حوضية نوع شوفرليت، تُجري بزعيقها عملية  قسطرة لفك الزحام المبكر.

جسران فقط يصلحان للعبور وهما من أصل خمسة كانت تربط طرفي الموصل الأيمن والأيسر، افتتحت بها الحرب شهيتها في التهام المدينة التي استيقظت أجزاء واسعة منها الآن.

إنها السادسة صباحًا وأبو أحمد الپاچچي يركل عظمة منسيةً على الأرض أمام دكانه. لا تعير القطط المستلقية أية أهمية لدحرجتها. يخطو بجسده المحني متوجهاً إلى منزله، تاركاً لأولاده الثلاثة مهمة تنظيف طاولات المطعم وأطباقه وإعداد خرافٍ جديدة لمعركة رزق اليوم التالي.

ينشر هذا التقرير بإذن من موقع خط ٣٠

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى