طفلة من أطفال التوحّد.. متفوّقة في دراستها وتعيش في عالم الألوان

البصرة- نغم مكي   

صنعت الطفلة سما ذات التسعة أعوام عالماً خاصاً بها مليئاً بالألوان لا يفهمه أحد سواها، ترسم في هذا العالم شخصيات كارتونية تشاركها يومها بل حياتها كلها.

في مراحل مبكرة من عمر هذه الطفلة المصابة بطيف التوحد اكتشفت والدتها موهبتها في الرسم وعلاقتها الخاصة مع الألوان. 

تقول الوالدة: “فوجئت عندما رأيت ابنتي تمسك الأقلام الملونة وتخط رسومها الأولى، كانت تتصرف وكأنها رسّامة محترفة تعرف تماماً ما تريد..  فرحت كثيراً ولشدة اعتزازي بأعمالها نشرتها على مواقع النت وذهبت للمطبعة في شارعنا وطبعت أولى أعمالها كي لا أنسى تلك اللحظة”.

وتكمل: “في عمر الأربع سنوات كانت ابنتي ترسم وتصنع المجسمات، فتحفزت أكثر وسعيت لتنمية موهبتها بصورة أوسع وأدخلتها في معارض وورش أون لاين لتشجعيها”.

لم يمض وقت طويل حتى بدأ رسامون عراقيون يتفاعلون مع رسوم الطفلة ويشجعون موهبتها، من بينهم باسمة الحسن وميادة الامارة وخنساء الديراوي وخلود الشاوي.

طفلة مختلفة

تفيد دراسة أجراها معهد الدراسات في جامعة كامبريدج عن مرضى التوحد في العراق بأن التوحد انتشر بنسبة كبيرة مقارنة بالسنوات التي سبقت الغزو الأميركي ووصل عدد الحالات إلى 75 حالة لكل عشرة آلاف شخص من الأعمار ما بين خمسة أعوام و11 عاماً علماً أن هذه الإحصاءات تبقى تقديرية.

بينما يؤكد الطبيب منذر عبد الستار سلمان، وهو معالج نفسي واخصائي في التوحد واضطرابات النطق أن مرض التوحد ما زال مجهول الأسباب إلى اليوم، إذ يعتبر بالنسبة لجزء من الباحثين مرضاً مكتبساً ولجزء آخر مرضاً وراثياً، ويضيف: “الباحثون والأطباء المختصين بهذا المجال للآن لم يعرفوا أسبابه وكل ما لدينا إلى اليوم هو اجتهادات شخصية”.

أما والدة سما فتروي من جهتها لحظة اكتشاف طيف التوحد عند ابنتها قائلة، “في عمر السنة ونصف كانت سما لا تجيب ولا تتلفت عندما أناديها وأثناء بدئها بالمشي كانت كثيرة الحركة ولا تنتبه للآخرين.. حينها عرفت أنها طفلة مختلفة”. 

عندما بدأت “أم سما” بعرض حالة الطفلة على مجموعة من الأطباء النفسيين في البصرة لم تحصل على جواب شافٍ. “شعرت بغصة كبيرة في لحظتها وقررت تدريبها في البيت وإدخالها برامج تعليمية على الانترنيت وإحضار مستلزمات الرسم لها”.

وتشير الوالدة أيضاً إلى أنها رفضت في البداية علاج ابنتها بالدواء خوفا عليهاً من مضاعفاته ومن تفاقم حالتها، لكن في عمر الـ (8) سنوات أخذت بنصيحة الطبيب وبدأت بإعطائها الأدوية التي حسّنت من حال الطفلة. 

وبعدما كانت الوالدة تمتنع عن زيارة الأقارب بسبب الحركة المفرطة لابنتها صارت سما اليوم تزور أقاربها وتمضي وقتاً ممتعاً معهم.

لا اهتمام بمرضى التوحد 

كان التحدي الرئيس لدى والدة سما هو أن تكمل الطفلة تعليمها، وكان عليها الصبر والإصرار في ظل نظام تعليمي يخلو من وجود مختصين ومشرفين على الحالات الخاصة.

فبحسب منظمة “أطفال اليوم” لا تولي الحكومة العراقية، وتحديداً وزارة الصحة، الاهتمام اللازم للأطفال المرضى بمرض التوحد فليست هناك رعاية حتى لو كانت في أدنى مستوياتها، في حين يخلو العراق من معاهد ترعى هؤلاء الأطفال.

وفي خلال السنوات السابقة لم تدخل سما أي برنامج تعليمي بسبب غياب المدارس المختصة بحالتها في مدينة البصرة.

“لكنها طفلة ذكية وسريعة الحفظ” تقول والدتها بفخر، وتضيف: “لقد تعلمت القراءة والكتابة في عمر 5 سنوات لوحدها من دون مدرسة.. كنت أفتح لها البرامج  التعليمية ونجلس معاً ونقرأ، وهي اليوم تجيد اللغة الإنجليزية أكثر من العربية”.

خوف من الدراسة

تؤكد هذه السيدة أن توفير الجو الهادئ طوّر من موهبة ابنتها وساعدها على التعلم بسرعة، “نحن عائلة صغيرة تتسم بالهدوء وتفهم حالة سما وهي تعلم أنها مصابة بالتوحد فعند النوبة العصبية نحاول جميعاً تهدئتها باحتضانها وعناقها”.

عندما بلغت سما عمر الـ 9 سنوات لاحظت والدتها أن ابنتها من الممكن أن تتعلم في المدرسة. تقول الوالدة: “سجلتها في المدرسة وفوجئت أنها رغم مرضها كانت الأولى على صفها، إلا أن المعلمة لم تكن اختصاص تربية خاصة لمثل حالة سما وكانت تنتابها فورات غضب على الطلاب مما أدى لنفور سما وخوفها من الدراسة”.

دمج الطفل بالمجتمع 

يؤكد الطبيب منذر عبد الستار سلمان أن للتوحد أسباب كثيرة جميعها غير مثبت علمياً بدرجة كافية، “فالدراسات الأميركية والأوروبية تقول إن التوحد غير مكتسب أما الدراسات الصينية واليابانية ودول الشرق الاوسط فتقول أن مرض التوحد مكتسب بعد الولادة، فالطفل وهو في عمر أقل من السنة أو من سنة إلى أربع سنوات يصاب بحالة التوحد”.

ويشير الطبيب المختص إلى أن هذا المرض تم تشخيصه عام 1937 لكن مع انتشار الأجهزة الإلكترونية كالتلفاز والالعاب الالكترونية زاد عدد المصابين به. وصرح أن الطفل في سنواته الأولى يحتاج لمراعاة خاصة فإن جلس طوال الوقت أمام جهاز الكمبيوتر أو المحمول فسوف يكون أشد عرضة للإصابة.

وتعليقا على حالة سما يقول الطبيب إن للتوحد مستويات ثلاث، شديد ومتوسط وبسيط، ولكل نوع ايضاً يوجد متلازمة، وطفل التوحد الذي يعاني من الفرط الحسي كما هو حال الطفلة سما يتميز بنسبة ذكاء عالية وإن لم توظف بالشكل الصحيح أدت إلى أن يتقوقع وينعزل عن الآخرين.

ويضيف أنه لا يوجد علاج واحد، لكن مراحل علاج التوحد تتعلق بكل حالة على حدا وتتطلب أكثر من طبيب مختص، بحيث يكون كل اختصاص مرتبط بالثاني، “فاختصاص المعالج النفسي يدخلك للمجال اللغوي ثم مجال التخاطب ثم اختصاص طب نفسي عام، وأيضاً البرامج  تختلف من مركز لآخر”.

وتشير الدراسات العالمية أن الأطفال الذكور أكثر عرضة للتوحد من الإناث، بنسبة أربعة إلى واحد وأنه لا يوجد شفاء تام من التوحد فقد تصل نسبة الشفاء إلى 70% ويظل المريض حاملاً متلازمة التوحد.

وكما فعلت والدة سما، يقول المعالج النفسي سليمان إنه “يجب على العائلة أن تدمج طفل التوحد في المجتمع وان لا تعتبر مرضه شيئاً معيباً فكثير من أطفال التوحد أصبحوا ذوي مكانة في المجتمع بسبب ذكائهم ومهاراتهم المتميزة أمثال ألبرت أينشتاين”. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى