غاسلات الموتى: الكثير من الشكر.. ومن النفور أيضاً

البصرة- نغم مكي

تعمل أم سارة (52 عاماً) في مهنة ترتبط بالموت يندر العمل بها ليس في البصرة وحسب بل في كل مكان، هي مهنة غسل الموتى.

بدأت أم سارة عملها هذا في الأسبوع الأول الذي أصبحت فيه عروساً، كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي. “كنت شابة صغيرة سكنت مع زوجي في الطابق العلوي لإحدى الحسينيات التي يجاورها مغتسل، عمل زوجي مغسّلاً للرجال ولعدم وجود نساء يقمن بهذا العمل اقترح عليّ العمل معه وبعد موافقتي علمني طريقة التغسيل ثم أصبحنا أنا وزوجي شريكان في هذه المهنة” .

لا وقت للموت

تتذكر أم سارة تجربتها الأولى قائلة، “كانت صعبة.. شعرت بالخوف الشديد والارتباك.. ارتعش جسدي ولم أكن قادرة على إتمام المهمة”. وتضيف أن أهلها لم يوافقوا في بادئ الامر على اختيارها هذا المسار، “كانوا معترضين لصغر سني في وقتها وخوفا عليّ من كلام الناس”، لكن مع مرور الأيام تقبّلا عملها كما صار العمل نفسه بالنسبة لها يسيراً.

تقول أم سارة إن غسل الموتى مهنة تجعلها “أقرب الى الله.. فالموت يذكرني بالآخرة والنهاية الحتمية لكل البشر”، وتضيف: “أحيانا لا أتواجد في البيت أو أكون بمناسبة معينة عندما يتصلوا بي لأغسل جنازة.. عندها أترك اي شيء افعله وآتي للتغسيل”.

وتتابع “حتى لو كنت مريضة أو متعبة لا أتردد بالقدوم إلى المغتسل.. فهذا الموت لا وقت له ولا يجوز التأخر في إتمام مراسيمه”.

حرصت أم سارة على تعليم بناتها طرق التغسيل وان لم يمتهنونها، فهي ترى في ذلك “أجر ثواب في الدنيا والآخرة”، وهي لهذا السبب لا تحدد سعراً أو تطلب مردوداً ماديا لعملها، بل تكتفي بما يقرره أهل المتوفى من أتعاب، أو كما تقول “هم يكرمونني طيبة خاطر منهم”.

حالات مختلفة

تتحدث أم عدنان (50 عاماً) وهي مسؤولة وحدة النشاط النسوي في دائرة الوقف السني في البصرة عن بدايتها بمهنة تغسيل الموتى قائلة “فكرة بالعمل في هذه المهنة لوجود الرغبة عندي وطلباً للأجر والثواب، خاصة عندما كنت أرى انساناً ميتاً لا يوجد من يغسله، فعدد النساء المغسّلات قليل جداً”.

كما هو الحال مع أم سارة، تعلمت أم عدنان المهنة في العشرينات من عمرها على يد امرأة كبيرة في السن، “كنت أنا وفتيات أخريات نذهب معها ونساعدها، ثم انضممت إلى دورة تأهيلية في الزبير لأتقن التغسيل جيداً وما زلت مستمرة بالعمل إلى اليوم”.

أول تجربة لأم عدنان مع غسيل جسد ميّت أشعرتها بالرهبة على حد وصفها، لكن الأمر صار أسهل مع مرور الأيام، حتى أنها علّمت بناتها أصول المهنة أيضاً، “الآن أنا أغسل أولاً وبعدها بناتي يكملون العمل” وتتابع: “فبل فترة طلبت مني قريباتي وهن طالبات جامعيات أن أعلمهن، فقمت بذلك، علّمتهن وأصبحن يغسلن لوحدهن”.

بحسب أم عدنان لا تختلف طرق تغسيل الجنازة إلا في حالات معينة “فالجنازة المحترقة نكتفي بصب الماء عليها ولا نقوم بتنظيفها بسبب الجلد المحترق.. تلك اصعب حالة نمر بها، أما الجثة المشرحة فنقوم بتنظيفها ونضع الكافور الناعم على الجرح وبعدها نضع القطن”.

تتذكر أم عدنان مرة واحدة اعتذرت فيها عن غسيل جنازة، لم يكن السبب صعوبة الحالة نفسها، لكن كان عليها السفر لمدينة أخرى فاعتذرت، “لولا بعد المسافة لما اعتذرت.. لكني إلى اليوم ما زلت أشعر بالأسف والندم لأنني لم أذهب”.

أما المردود المادي الذي تجنيه هذه السيدة من عملها فهو مبلغ بسيط تقبله فقط إذا ما أصر أهل الميت على الدفع ثواباً لميتهم، “وفي هذه الحالة لا أبقي المال لنفسي بل أشتري به ما يحتاجه المغتسل من كفن وكمامات ولوازم أخرى”.

لم يخبروني أنها مصابة

توضح أم سارة أنها سبق وغسلت بعض الجنائز دون أن تعلم أن المتوفاة كانت مصابة بكورونا بسبب إخفاء الأهل للأمر، “وذلك على عكس حالات أخرى يخبر بها الأهل بظروف الميت ويخيّروننا أن نقوم بالغسل أو لا، ويبرؤون ذمتهم فأقبل التغسيل”.

وتكمل أم سارة أنها في حال التعامل مع جنازة مصابة بكورونا تتخذ مجموعة من الاحتياطات، “أرتدي الكمامة والكفوف واستخدم المعقمات واتوكل على الله” وتضيف أنها أصيبت في العام الماضي بالفايروس بسبب انتقال العدوى من أحد الجنائز لكنها سرعان ما شفيت.

الأمر نفسه حصل مع أم عدنان التي تشتكي من إخفاء ذوي الميت لسبب الوفاة في حال كانت جراء الإصابة بالفايروس. “في إحدى المرات لاحظت ان الأهل لم يقتربوا مني عند الغسل فاستغربت لذلك وشككت بالأمر إلا انني لم اتوقف عن غسلها ولولا إمام الجامع الذي اخبرني انها مصابة لما علمت ثم اخبرته اني لا أما نع غسل المتوفيات بسبب كورونا بعد اخذ الاحتياطات”.

 بين النفور والتشجيع

بالرغم من عبارات الشكر التي تتلقاها غاسلة الموتى عادة من ذوي الميتة إلا أن صاحبات هذه المهنة يواجهن ردات فعل مختلفة من المجتمع. تقول أم سارة “آلمتني ردة فعل بعض الجيران ونفورهم عندما قمت بتوزيع الأكل في المناسبات الدينية أو الخاصة، قابلوني بالرفض والتقزز .. أحيانا أخرى أقابل بذهول البعض من تغسيلي للموتى واحياناً يعاملني ذوي المتوفاة بتعالٍ وتكبر معتبرين مغسّلة الموتى تعمل لديهم”.

كما أن كثر يعتقدون بحسب أم سارة أن غاسلي الموتى قساة القلوب بسبب تعاماهم مع الجثامين طوال الوقت، لكنها تنفي ذلك وتقول: “أكثر ما يؤلمني في مهنتي فهو مشهد الموت نفسه، والحزن الذي يحيط بالأجواء.. اتأثر كثيرا وأبكي، خصوصاً عند رؤيتي لفتاة تنعى أمها، أقوم بتصبيرها وأحاول تهدئة روعها فأنا حنونة رقيقة القلب على عكس ما يعتقد الكثيرون.. صحيح أن الموت له رهبة لكنه لا يقسي القلب”.

أما أم عدنان فتضيف أن هذه المهنة لا تتطلب القسوة، بل على العكس، “إنها تتطلب قوة ورحمة، وسبب قلة النساء في هذه المهنة هو الخوف من الالتزام الطويل ومن المسؤوليات خصوصاً ان بعض الاهل والأزواج لا يسمحون للمرأة بالخروج للعمل في وقت متأخر”.

برأي الباحثة الاجتماعية زهراء علي فإن مغسل الموتى لا يتميز بطباع حاصة عن غيره كما انه لا يحتاج تدريب نفسي لأنه اصلا مؤهل نفسياً لهكذا عمل من داخله طالما أنه يعمل باختياره “ولو لم يمتلك القدرة والشجاعة فلن يستطيع العمل من الاساس بغسل الموتى”.

وتضيف زهراء “لا طبيب نفسي او باحث اجتماعي او اخصائي نفسي يحتاجه مغسلي الاموات إلا بالحدود التي يحتاجها بقية الناس، أما الحزن الذي يصيب مغسل الموتى عند العمل فهو طبيعي ويصيب كل انسان متواجد في جناز”.

خرافات

تروي أم سارة وأم عدنان مواقف تصفانها بالغريبة تتعلق بجلسة الغسل، فتقولان إن “بعض النسوة تصر على الحصول على صابونة الميت أو الليفة مدعين بأنها علاج لبعض الامراض الجلدية أو كي يفككن عنهن السحر ويستطعن الانجاب كما يعتقدن”.

وتتفق كلاهما على رفض إعطاء أي من متعلقات الميت لأي شخص، “لأنها تعتبر امانة وهو اهم شرط في المغسّلة”.

وتعتبران كل تلك المرويات عن استخدام حاجيات الميت “مجرد خرافات ترسخت بعقول البعض”.

طرق التغسيل

أحمد جابر إمام جامع الحاوي بمنطقة التميمية في البصرة تحدث عن شروط قبول المغسلة قائلا، “لا توجد شروط بيروقراطية، فكل شخص عارف بكيفية التغسيل والتكفين ولديه نية العمل بإمكانه ممارسته”.

أما من حيث كيفية التغسيل، “فالمرأة تغسل المرأة والرجل يغسل الرجل ويجوز للزوج تغسيل زوجته  ويجوز تغسيل الطفل من قبل مرأة أو رجل لأنه لم يبلغ بعد”.

ويضيف جابر، “في البدء يكون تنظيف جسم الميت من الاوساخ ثم يرش ماء السدر ثلاث غسلات لكل من الرأس والطرف الايمن والطرف الايسر فيكون المجموع تسعة، بعدها يرش بماء الكافور كما هو بالحالة السابقة، ثم بماء القراح”.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى