رحلة في اهوار الجبايش: ربيعها تنعشه السياحة رغم منع الصيد

ذي قار – مرتضى الحدود

يرمي حبيب الاسدي شباك الصيد في أماكن يعرفها جيدا منذ طفولته بين نباتات البردي ثم يعقد خرقة بيضاء بجانبها كي لا يتوه عن المكان ثم يعود بعد ساعات ليتفقد صيده في اهوار الجبايش.

رحلة الصيد التي يقطعها حبيب وزملاءه قد تستغرق يوما كاملا واحيانا اكثر بقليل يتزود الصياد بالمؤونة ويسير بقاربه الصغير المزود بموتور يعمل بالبنزين في أعماق الاهوار التي يضيع فيها أي سائح اذا لم يرافقه احد السكان.

صيد الأسماك هو مصدر الرزق الرئيسي لسكان هور الجبايش (440 كلم) جنوب بغداد الى جانب تربية الجاموس ويمنع الصيد في موسم الربيع لكونه موسم تكاثرها لكن انتعاش السياحة بات بديلا عن الصيد في هذا الموسم.

الرحلة داخل الاهوار يصعب الاستمتاع بها دون مرافقة حبيب او احد السكان الأخرين، يرتدي حبيب سترته وينطلق من احد الأنهار المتفرعة بجانب بيته نحو العمق، يصعب الجلوس في القارب الضيق لاكثر من أربعة اشخاص يوزعهم الصياد المحترف بشكل جيد ليضمن توازن قاربه الصغير.

جداول متفرعة وانهار صغيرة لا يزيد عرض بعضها عن متر واحد واحيانا اقل، يتنقل حبيب مع زواره من السائحين باريحية ويتعامل معهم أحيانا بمكر ودعابة حيث يلجأ الى هز القارب بحركة بهلوانية لاخافتهم فينتهي الامر بضحكات عالية بعد اكتشاف الركاب للمزحة.

يتوقف الرجل الذي لا تفارق النكتة محياه ويعرف زوايا هور الجبايش مثلما يعرف منزله بين الحين والآخر حينما تمر زوارق أخرى في الاتجاه المعاكس وينطلق حينما تبتعد “اذا لم اتوقف سينقلب الزورق بنا” يعلق حبيب.

انضمت الاهوار الى لائحة التراث العالمي عام 2016 مع مدينتي اور واريدو الاثاريتين، وبعد زيارة بابا الفاتيكان فرنسيس قبل اكثر من عام شهدت ذي قار انتعاشا سياحيا من قبل وافدين اوربيين واسيويين فضلا عن السياحة المحلية من داخل العراق.

بين المياه الشاسعة في الهور تنتشر مساحات صغيرة من اليابسة لا تتجاوز مساحتها أربعة او ستة امتار يطلق عليها السكان “الجباشة”  إذ ينزل السائحون من القوارب ويستقرون فيها يشعلون النار ويقومون بشوي الأسماك التي يحضرها سكان الاهوار بعد صيدها، يتناولون غدائهم ويقضون يومهم وسط الطبيعة قبل العودة في آخر النهار الى منازلهم.

في موسم الربيع تزدحم الاهوار بالسائحين الأجانب الذين يتجاوز عددهم 8000 سائح شهريا بين اجنبي ومحلي بحسب احصائيات الحكومة المحلية يجوبون تلك المسطحات التي بات سكانها يتقبلون التنوع والتغيير بعدما جلب لهم الرزق طوال فصل الربيع.

يلوح السائحون للقوارب المارة بالاتجاه المعاكس بحماس فيرد الناس التحية ويطلبون من السياح ان يحلوا ضيوفا عليهم، “انها ارض اجدادي كنت اقطن هنا قبل ان انتقل الى بيتي الجديد وامتهن العناية بالسياح” يقول الاسدي.

ويضيف “لقد تغيرت البيئة كثيرا وبات الناس هنا يتقبلون التغيير في حياتهم بعدما كانوا مغلقين على بيئتهم، وبدأ السكان ببناء علاقات جميلة مع السياح تجعلهم يعودون في كل عام الى المكان فهم مصدر رزق جديد لسكان الجبايش”.

موسم تكاثر الأسماك يبدأ من منتصف شباط وحتى نهاية نيسان إذ تمنع الحكومة المحلية فيها الصيد ومحاسبة كل من يصطاد الاسماك فيما يتزامن وجود السياح في الاهوار في المدة ذاتها لتمتع الاهوار بجو معتدل ربيعي، لكن هذا الامر لا يمنع ممارسة بعض الصيادين الصيد خلسة.

يستمر حبيب في رحلته حتى يصل الى قرية “الحلاب” حيث تقف حيوانات الجاموس على شواطئ القرية الصغيرة ويسبح بعضها في مياه الهور بطريقة تكشف عن عمق وجود هذا الحيوان في المكان، “انها لا تسمع جيدا ونسميها هنا البرشة، لكنها تملك حاسة شم ورؤية حادة” يقول الصياد المتمرس وهو يشير الى جاموسة بيضاء الرأس اقتربت من زورقه الصغير.

السياحة الربيعية دفعت بالصياد حبيب الى تطوير عمله من خلال استغلال باحة منزله التي تطل على احد الجداول النهرية المتفرعة من الاهوار في انشاء مضيف سومري من نبات القصب ليكون بذلك نموذجا للحياة الريفية التي يعيشها الاهواريون يستقبل فيه السياح وينقلهم في رحلات مدفوعة الى أعماق الهور ويقدم لهم وجبات السمك المشوي.

“مردود السياحة ساعدنا كثيرا في تطوير عملنا، لاسيما في موسم الربيع الذي يمنع فيه الصيد، لكن السياح يعودون مجددا في موسم الخريف ولا ينقطعون الا في شهور الصيف الساخنة وشهري كانون الأول وكانون الثاني بسبب برودة المكان” يقول حبيب.

الصياد أبو شيماء من سكنة قضاء الجبايش يجد في مهنة مرافقة السياح التي امتهنها مؤخرا خطوة متقدمة على مهنة صيد الأسماك والطيور فهي تجعله اكثر اختلاطا بثقافة المجتمعات الأجنبية وكيفية التعامل معهم.

يتحدث أبو شيماء اثناء قيادة زورقه برفقة أربعة من الأجانب مع مترجمهم ويصف للسياح اجواء الاهوار واهمية النباتات الطبيعية لهم كساكني تلك المناطق ليوصلهم بعد ذلك الى الجزر الصغيرة التي تسمى بلغتهم الـ”جباشه” اذ يقطنها الأهالي مع الجواميس.

يتوقف لبرهة ليسمح للسائحين بالتقاط صور للطيور التي تصطاد الأسماك ويتجول بعدها داخل الممرات المائية الضيقة وسط تلك القصبات العالية وكأنه يتجول داخل ازقة احد الاحياء السكنية في المدينة، ويتوقف مرات عدة في مناطق محددة داخل المياه ليتيح للسياح الاستماع الى أصوات البلابل التي يعرف مكان اعشاشها داخل الاهوار.

رعد الاسدي مدير منظمة الجبايش للسياحة البيئية المحلية التي تقوم بارسال غالبية افواج الوفود السياحية الأجنبية والمحلية يقول ان المجتمع الاهواري بشكله الحالي عمره آلاف السنين لكن الأهالي بدأوا بتطوير بعض المرافق السياحية وبناء”الصرايف” داخل الاهوار وهي بيوت صغيرة من القصب او شراء زورق كبير يستوعب اكبر عدد من الناس وحماية مناطقهم من النفايات بعدما شاهدوا اقبال السائحين.

ويضيف “لا توجد تغطية في أعماق مياة الجبايش لكن بعض السكان يستعينون بأصدقاء لنشر ارقام هواتف يتصلون بها حينما يريدون القدوم الى المكان كسياح”.

يؤيد حبيب ما قاله رعد ويقول “انا أيضا انشر رقم هاتفي على الفيسبوك لانني اقطن في مكان توجد فيه تغطية وهذا الامر يسهل التواصل مع السياح والحصول على زبائن دائمين”.

يشير الصياد الماهر الى بعض الخيوط البيضاء التي عقدها صيادون آخرون ويسأل السياح عن معناها ثم يشرح لهم بفخر العالم باسرار المكان، سر وجودها ثم يلقي نظرة خاطفة على ساعة يده قبل ان يعلمهم بأن الجولة ستنتهي بعد نصف ساعة لأن وجبة الغداء التي اعدها لهم في مضيفه السومري ستجهز.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى