متحف الحسون: مبادرة شخصية تروي حكاية مائة عام من تاريخ البصرة 

المنصة- نغم مكي

بحفاوة وترحيب يستقبل صادق الحسون زواره في بيت الشنانشيل في البصرة القديمة وكأنه بانتظار ضيف عزيز. يقف عند باب المتحف، يرحب بالزائرين ويجول معهم داخل البيت متنقلاً من غرفة إلى غرفة سارداً بحماس قصصاً عن المقتنيات الثمينة المعروضة، شارحاً أعمارها وقيمتها التاريخية وكيف حصل على كل واحدة منها.

ولد صادق الحسون، 63 عاماً،في إحدى بيوت الشناشيل في منطقة النظران في المدينة القديمة. كان مولعاً في مرحلة شبابه بجمع الأسلحة القديمة كالبنادق والسيوف والمسدسات لكن سرعان ما تطور هذا الاهتمام إلى جمع التحف والمقتنيات التي تخص تاريخ وثقافة العراق ومدينة البصرة تحديداً.

أمام مجموعة من الزوّار من أبناء البصرة وآخرين قدموا من محافظات أخرى وبعض السواح الاجانب يروي الحسون عن بداياته في جمع الانتيكات منذ أكثر من 30 عاماً فيقول: “عندنا رأى أصدقائي ومجموعة من مثقفي البصرة ما أملك من مقتنيات ثمينة اقترحوا عليّ فكرة إنشاء متحف وشجعوني على البدء بتنفيذها”.

يتابع كلامه متجهاً بنظره إلى أحد الزائرين: “بالرغم من العراقيل التي واجهتني صممت على تحقيق هذا الحلم. في البداية كنا نعرض في قصر الثقافة والفنون، ثم قمت بشراء بيت لهذا الغرض لكنه لم يكن مناسباً تماماً، ثم اشتريت بيت الشناشيل الحالي وهممت بإصلاحه وترميمه وجدّدت بناء حوض السمك في باحته، وأنشأت المتحف.. والحمدلله اعتبر ذلك مصدر فرح لي وراحة لنفسي”.

يشرح صاحب المتحف أن بيوت الشناشيل طراز معماري خاص بالجنوب العراقي، يتألف البيت فيه من طابقين، الأول يبنى بالطابوق والثاني تكون واجهته من الخشب. ويتميز هذا النوع من البيوت بالشرفات الخشبية المزخرفة المصنوعة بمهارة واتقان، وبالفناء الواسع وبزجاج النوافذ الملون، ومنه اكتسبت البصرة اسماً جديداً بحيث صارت تلقب بـ “أم الشناشيل”. 

مقتنيات هذا المتحف الصغير الذي يحمل اسم “متحف الحسون” جمعها الرجل الستيني من كافة مدن العراق وما زال مواظباً على شراء المزيد من التحف من خلال تنقلاته بين المحافظات العراقية وأحياناً خارج البلاد. 

ووزّع صادق الحسون في غرف بيته القديم مئات القطع النادرة التي كان بصريون وعراقيون يستخدمونها قبل مائة عام وأحياناً أكثر، فنرى في إحدى الغرف مجموعة من الآلات الموسيقية القديمة التابعة للجيش العراقي في بدايات تأسيسه، كآلات النفخ والالات الوترية، كما يمكن العثور على أدوات أخرى تعود للجيش مثل الزي العسكري الصيفي والشتوي وقراب الماء المصنوعة من الجلد، وأنواع مختلفة من الأسلحة الفردية كالبنادق والمسدسات والسيوف القديمة.

أما على الجدران فعلّق الحسون أبواب قديمة صغيرة يسميها البصريون “كشتبان” عمرها اكثر من مائة عام، وأبواب أخرى أكبر حجماً كانت تستخدم في البيوت الطينية، كما علق مجموعة واسعة من الأدوات المعدنية كالسلاسل وأقفال والمقصات قديمة والأواني.

وفي ركن من البيت الواسع يشير الحسون بفخر إلى مجموعة من القطع الفضية صنعها قبل عقود صائغ يدعى “زهروم” عاش في البصرة وبعدها انتقل للعمارة، وتتمتع أعماله بالندرة والجمال الخاص، “فالقطعة التي تصنع على يده والرسوم التي ينقشها لا نجد لها مثيلاً عند صائغ آخر، وهي تباع بمبالغ باهظة”، يقول.

عند الانتقال إلى غرفة أخرى من بيت الشناشيل يمكن مشاهدة آلة بيانو قديمة كانت تستخدم في إحدى كنائس البصرة، وثلاجة خشبية وثلاجة أخرى تعمل على الوقود ومجموعة من الآلات الكاتبة والهواتف وأجهزة التلفزيون وكاميرات التصوير الضوئي. 

وتتوزع في باقي الغرف عشرات قطع السجاد المصنوعة من النول، واللوحات الفنية، كما خصص جزءاً من البيت لمكتبة صغيرة تحتوي على كتب ومخطوطات النفيسة والنادرة. 

ولم ينس الحسون أن يخصص غرفة من البيت على شكل مقهى قديم، بكامل أثاثه ومعداته وغرفة أخرى على شكل “جلسة عربية”، ليذكر الزوار بالجلسات التي كان وجهاء المدينة ورجالات العشائر يعقدونها في الماضي للتشاور في أحوال الناس أو للتسامر وتبادل الأحاديث.

يعود الحسون  بذاكرته إلى بداية تأسيسه للمتحف وجمعه لتلك القطع، مخبراً الزائرين كيف كان يتعرض للخديعة، فيشتري قطعا غير أصلية بأثمان باهظة، ثم يستدرك قائلا: “اليوم اكتسبت الخبرة والمهارة المطلوبة وصرت بارعاً في تمييز الاصلي عن غيره وأيضاً في التمييز بين مختلف القطع المصنوعة يدوياً”.

وبتوافد على هذا المكان عشرات الزوار يومياً، بعضهم من خارج البلاد، لذا خصص الحسون اماكن في المنزل لعرض مقتنيات من دول أخرى. وقد قام بزيارة المتحف العديد من الشخصيات العالمية المعروفة منهم الكاتب والرحالة الياباني هيديوكي تكانو الذي سعد كثيرا عندما رأى احد القطع التي ترجع لتراث بلده موجودة في المتحف، وفقاً للحسون، لكن يزور المتحف بانتظام فنانون ومثقفون عراقيون ووفود من الحكومة المحلية صحبة زوار من الخارج.

ولا توجد أوقات محددة لزيارة متحف الحسون فالمواعيد تحدد بعد اتصال معه على أرقام الهواتف الموجودة على الانستغرام لأن المتحف بحسب توضيحه “متحف شخصي لا يتبع لجهة رسمية، وهو مفتوح للجميع ونرحب بالزوار من كافة المناطق وجميع الفئات العمرية”.

يوضح خبير التحف أن الدخول مجاني تشجيعا لزيارة المتحف ويشير إلى أن “ديكور المكان يتغير باستمرار كي نجنّب الزائرون الملل، لكن كل ما نطلبه من الزائر هو عدم لمس القطع تجنبا لوقوع حادث او كسر لغرض ما”.

وبين فترة وأخرى يستضيف المتحف بعض النشاطات الاجتماعية أو الثقافية، كما حصل مؤخرا بناء على طلب سواح اجانب من خلال استضافة فرقة موسيقية بصرية بمناسبة “الگرگيعان” وهو احد الاحتفالات الشعبية الرمضانية التي يحييها أهالي الجنوب العراقي.

واستضاف المتحف ايضا في الفترة الأخيرة أمسية عرض ازياء خاصة للمصممة “أمل آغا جعفر” كانت الأزياء فيها “مستوحاة من الثوب الهاشمي والصاية والعباءة لكن بروح عصرية”، يقول الحسون، كما أقيم أيضاً مزاد للعملة والانتيكات والطوابع، وهي فكرة يعتبرها صادق الحسون “الأولى من نوعها في محافظة البصرة”.

يصف مدير قصر الثقافة والفنون في البصرة عبد الحق المظفر متحف الحسون بأنه “انجاز هام يعبر عن تراث وتاريخ البصرة”، ويروي أن بدايات المتحف كانت في إاحدى غرف  قصر الثقافة، “لكن كثرة المقتنيات تطلبت التوسع بالمساحة ثم فتح المتحف الحالي الذي يحتوي على جميع مقتنيات البيت البصري القديم من الصحون والأواني والأسرّة والمفروشات والاسلحة”.

ويذكر المظفر أن البصرة تحتوي على متحفين رسميين فقط، أحدهما “متحف البصرة الحضاري” الذي يتبع لوزارة الثقافة والسياحة والآثار ويحتوي على قطع تاريخية عمرها يزيد عن 3000 سنة وموقعه في منطقة القصور الرئاسية، وهناك أيضاً متحف الجامعة.

أما المتاحف الشخصية فعددها أربعة متاحف تتوزع في مناطق أبو الخصيب وشط العرب والدير، ومتحف الحسون في قلب المدينة القديمة.

يعلق الحسون على كلام المسؤول الحكومي متمنياً وجود عدد اكبر من المتاحف الشخصية في العراق كي يتعرف الناس على تراث بلدهم وشخصياته المعروفة. 

وبينما تعلو وجهه ابتسامة يتوجه بحديثه إلى جامعي المقتنيات والمهتمين بتاريخ وثقافة العراق قائلاً: “اشعر براحة نفسية عند شراء المقتنيات وعرضها في المتحف وتكبر فرحتي عندما اشاهد الزوار يتجولون بأروقة المتحف، لذلك أتمنى أن يزيد عدد هذه المبادرات وتنتشر في كافة محافظات البلاد”.