الهاربات من العنف المنزلي.. من الجحيم إلى الجحيم
منار الزبيدي- بغداد
كانت سارة (17 عاماً) في دوامها المدرسي عندما قررت الهروب إلى منزل شقيقة صديقتها في بغداد. خرجت من المدرسة وهي ترتدي زي الطالبات وتوجهت الى مرآب السيارات ومن هناك استأجرت سيارة صغيرة أوصلتها إلى وجهتها في العاصمة.
تعيش سارة مع أسرتها في واحدة من المحافظات الجنوبية، كانت تتعرض للعنف المستمر من قبل شقيقها الذي يكبرها بسنتين. تقول سارة: “كان محّرم عليَّ استخدام الموبايل وعندما أقوم باستخدام موبايل والدتي اتعرض للضرب والاهانات المتكررة على يد شقيقي. كانت أمي توصيه بمراقبتي وتحرضه باستمرار على ضربي، ولم تفلح كل محاولاتي للتخلص من هذا الارهاب الذي كنت أعيشه في منزلي”.
تكمل حديثها للمنصة: “لم أفعل شيء سوى انني طلبت موبايل للتواصل مع صديقاتي وقريباتي، الكل في مدرستي يستخدمن الموبايل، ذات يوم قررت شراء موبايل بواسطة إحدى زميلاتي ودفعت ثمنه على شكل دفعات كنت أدخرها من مصروفي اليومي وعندما اكتشف اخي ضربني بوحشية وعذبني ومنعني من الذهاب الى المدرسة لكن والدي تدخل وقال: لنمنحها فرصة أخيرة”.
في اليوم الذي عادت فيه الى المدرسة قررت ان لا تعود لمنزل اسرتها أو “منزل الجحيم والعذاب” كما وصفته، وعندما وصلت سارة إلى بيت شقيقة صديقتها في بغداد كانت تبحث عن مساعدة للوصول إلى مكان آمن. “كنت خائفة جداً فهذه هي المرة الأولى التي أترك فيها المنزل”.
لكن بسبب المسائلة القانونية والخوف من الملاحقة العشائرية رفضت شقيقة صديقتها استقبالها أو تقديم المساعدة لها وأبلغت الشرطة المجتمعية عنها ليتم بعد ذلك إعادتها الى منزلها. “استسلمت للعودة فلم يكن امامي أي خيار، شعوري بالخوف من رد فعل أسرتي كان يشل تفكيري.. يا ترى ماذا سيفعلون؟”.
لحسن الحظ لم تُقتل سارة كما كان متوقّعاً، لكنها تعرضت للضرب والاهانة وجرى عزلها وحبسها في إحدى غرف المنزل وبعد مرور أربعة أشهر أجبرت على الزواج من ابن عمها الذي يكبرها بعشر سنوات.
“الزواج جحيم آخر” تقول سارة للمنصة وتتابع: “منذ زواجي قاطعتني أسرتي وبقيت وحيدة في دوامة عنف زوجي، أفكر بالطلاق أو الانتحار لكني لن أكرر الهروب فهو بلا جدوى”.
معالجات غير مجدية
عشرات المنشورات نقرأها بشكل شبه يومي على صفحة الشرطة المجتمعية مفادها خبر بعنوان موحد وتحته ذات التفاصيل “إعادة فتاة هاربة الى ذويها بعد أن تعرضت للتعنيف من أسرتها وقدمنا لها الدعم النفسي والمعنوي وأخذنا تعهدات من ذويها وسنقوم بزيارتها دورياً”.
المتتبع لعمل الشرطة المجتمعية عبر موقعها الرسمي في الفيسبوك سيتعرف على آلية عملها في معالجة هذه الحالات والتي تتلخص بإعادة الهاربات إلى منازل اسرهن بوقت قياسي، إضافة إلى توصية فريق من الشرطة المجتمعية بزيارة الضحية في منزل أسرتها بين فترة وأخرى.
لكن بعض هذه الفرق لا يتسنى لها القيام بهذه المهمة تجاه بعض الضحايا بسبب تغيير عنوان سكن الاسرة والانتقال الى مكان مجهول، وهنا تصبح الشرطة “عاجزة” عن تتبع أحوال الضحية ومساعدتها، وبسبب هذه المعالجات غير المجدية في أغلب الأحيان -كما يصفها المدافعون عن حقوق المرأة- لا تلجأ الفتيات الهاربات الى الشرطة بشكل عام خوفاً من إعادتهن إلى ذويهن ومواجهة المصير المعروف وهو “القتل” أو التعرض للضرب والأذى في أقل التوقعات.
وبحسب مدير الشرطة المجتمعية، غالب العطية، بلغ عدد الفتيات الهاربات اللواتي تم إعادتهن إلى منازل أسرهن في عام 2020 (114) فتاة، وفي العام الماضي (74) فتاة، وخلال سنة من الوقت الحالي بلغ عددهن (140) فتاة أغلبهن “غير متعلمات”.
الناشطة النسوية فاطمة أحمد ترى ان انخفاض عدد الفتيات اللواتي لجأن إلى الشرطة في العام الماضي مؤشر يؤكد على عدم ثقة الضحايا بإجراءات الحماية الحكومية، وبالتالي “فإنهن معرضات لأبشع انواع المخاطر أبرزها الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي”.
إجراء حكومي وجرائم محتملة
ينتقد المحامي والمدافع عن حقوق المرأة محمد جمعة اجراءات الشرطة المجتمعية في التعامل مع الفتيات الهاربات، ويعتبر إعادتهن إلى أسرهن غير كافٍ لحمايتهن، ويشير جمعة الى إمكانية حصول جرائم بحق الفتيات الناجيات من العنف والمعادات الى ذويهن بمساعدة الحكومة.
يقول جمعة للمنصة إن إعادة الفتيات الى ذويهن سيولد ثلاث جرائم محتملة وهي “القتل او التحريض على الانتحار او التزويج بالإكراه” ويعتبر هذا الاجراء الحكومي خطيراً، قد يؤدي الى حصول جرائم بنسبة 90% بحق الفتيات المعادات، وبهذا فإن “الشرطة المجتمعية تفتح الباب لارتكاب جرائم محتملة”، منتقداً عدم وجود قانون واضح وصريح يحكم عمل الشرطة المجتمعية التي تتصرف وفقا لأفكار المجتمع السائدة في معالجة القضايا المجتمعية ومنها التعامل مع الفتيات الهاربات.
أما مدير الشرطة المجتمعية فيرد على ذلك قائلاَ إن “كل من يشكك في عملنا بإعادة الفتيات الهاربات الى أسرهن يجب عليه أن يتعرف على القيم المجتمعية وعادات وتقاليد الأسرة العراقية”.
ويشير العميد غالب العطية إلى أن إجراءات الشرطة المجتمعية ساهمت في إعادة مئات الفتيات الهاربات إلى منازل أسرهن، أغلبهن صغيرات السن تتراوح أعمارهن تتراوح بين 13-17 عاماً، الفئة الأكبر من بغداد ومحيطها ومناطق وسط وجنوب العراق.
ويؤكد العطية أن إعادة الفتيات تتم بشكل “طوعي” بدون إكراه وتحصل الشرطة مقابل ذلك على ضمانات و”تعهدات خطّية” من ذوي الهاربات، إضافة إلى تنظيم زيارات ميدانية دورية من فرق الشرطة المجتمعية تُحدد أوقاتها حسب الحاجة وخطورة الحالة.
ونوه العطية إلى أن هذه المعالجة “أسهمت باندماج الفتيات الهاربات مع أسرهن وبعضهن أكملن دراستهن”، لكنه عاد وأقر أن عدد من هؤلاء الفتيات يتعرضن للعنف بعد إعادتهن إلى منزل الأسرة.
أما عن أسباب هروب الفتيات من المنزل فيبين العطية أن “العنف الاسري هو أبرز الأسباب إضافة إلى الابتزاز الالكتروني والخوف من القتل” مضيفاً أن “البعض منهن يهربن بسبب إغواء الشباب ويقعن ضحية نصب واحتيال حيث يتم استدراجهن من مناطق سكنهن إلى محافظات أخرى وأخذ اموالهن وتركهن في الشارع يواجهن مصيراً مجهولاً” ويقول “التغرير بالفتيات أصبح أمراً شائعاً”.
معالجات حسب الامكانيات
تمتلك الشرطة المجتمعية إمكانيات محدود إذ لا توجد مراكز استماع أو إيواء خاصة بالمعنّفات سوى تلك التي تديرها وزارة العمل وهي لا ترتقي لأن تكون ملاذاً أمناً للفتيات فضلاً عن تعقيدات وروتين عملية الإيداع، فغالباً ما تجد الشرطة فتيات هاربات في ساعات متأخرة من الليل وهنا تكون الحيرة، أين سيتم ايداعهن؟
وفي هكذا حالات لا تجد الشرطة المجتمعية مكاناً آمناً سوى المنازل الخاصة بالضابطات اللواتي يرفضن غالباً ايداع الفتيات في منازلهن خوفاً من المسائلة القانونية والعشائرية، إضافة إلى أن الهاربة تكون في وضع نفسي صعب، بحاجة للرعاية والمراقبة طيلة تلك الليلة.
في أحيان أخرى يتم ايداع الهابات في دور رعاية المسنين، لذلك تتعجل الشرطة المجتمعية بإجراءات إعادة الفتيات إلى أسرهن وتختم حل المشكلة “بالصلح والتراضي” و”الدعم المعنوي” و”توجيه الاسرة”. ورغم أن الشرطة المجتمعية تلزم أسر الفتيات بضرورة الابلاغ في حال تغيير مكان السكن إلا أن الأمر لا يجري بهذه الصورة وهنا تنتهي عملية الرعاية اللاحقة ويبقى مصير الفتيات “مجهولاً”.
يوضح العطية أنه في بعض حالات العنف واستحالة إعادة الفتيات إلى أسرهن يودعن في دور إيواء “غير حكومية” وبعضهن يعرضن على القضاء ثم يتم ايداعهن في دور إيواء حكومية.
وبحسب العطية فان بعض الفتيات تعرضن للعنف بعد اعادتهن لأسرهن، “حينها نقوم بإرسال مفرزة أمنية لاصطحاب الفتاة المعنفة الى الجهات المعنية لغرض تقديم شكوى اصولية ضد ذويها”.
ويقتصر دور الشرطة المجتمعية في هكذا حالات وبعد تلقي بلاغ من الفتاة المعنّفة، على المساعدة في اختصار الاجراءات الروتينية عند تقديم الشكاوى وفي حال استحصال موافقات القضاء يتم إلقاء القبض على المعنفين.
كما تفتقر الشرطة المجتمعية الى وجود عدد كاف من العناصر النسائية ذات المهارات والكفاءات المناسبة للتعامل مع مهام العمل الكبيرة والجسيمة، فقد بلغت نسبة العناصر النسوية الموجودة حالياّ 2 بالمئة فقط قياساً بالرجال واغلبهن بأعمار كبيرة.
الباحثة نفسية الاجتماعية والنفسية ابتسام المحنة تعتقد أن إعادة الفتيات الهاربات إلى منازل أسرهن بمثابة عقوبة، خاصة في حال كانت الأسرة تقدس العادات والتقاليد وتعتبر ترك الفتاة للمنزل يجلب العار ولابد من “غسل العار” بالقتل، لذلك ترى الباحثة أن “هذه المعالجة لها مخاطر حقيقية على حياة الفتيات الهاربات، ومنطقياَ فان اغلب الفتيات يهربن بسبب الخوف من العقاب سواء ارتكبن خطأ بسيطاً أو جسيماً فكيف إذن تتم إعادتهن بعد هروبهن ببضع ساعات؟”.
وبحسب الباحثة فانه من الصعب أن تتقبل الأسرة ابنتها الهاربة بعد عودتها ومن الصعب جداَ التكهن بالتفاصيل التي ستعيشها الفتاة داخل اسرتها بعد مغادرة الشرطة. وهي لا تعتقد بأن الزيارات الدورية للشرطة ستكشف عن حجم معاناة الفتيات، “لأنهن بعد إعادتهن سوف يفقدن الثقة بإجراءات الشرطة وينتهي بهنّ المطاف في نفس المنازل التي عانين فيها كثيراً”.
ملاذات سرية
تقع المنظمات النسوية غير الحكومية في حيرة من أمرها أمام المعنفات اللواتي يلجأن لها طلبا للمساعدة في توفير ملاذ آمن، فالقانون العراقي لا يسمح للمنظمات غير الحكومية بفتح دور إيواء للمعنفات ولا توجد دور حكومية لإيواء الناجيات من العنف سوى عدد محدود من الدور الحكومية والتي تسمى “دور المشردات” تأوي فتيات دون سن الـ (18)، كما لا توجد ثقة بتلك الدور التي أثيرت حولها الكثير من الشكوك بعد حادثة حريق دار المشردات في الأعظمية الذي توفيت فيه بعض النزيلات في حادثة “انتحار جماعي” احتجاجاً على سوء الأوضاع داخل الدار.
هذا الأمر دفع بعض المنظمات النسوية العراقية إلى فتح بيوت آمنة “سرية” للناجيات من العنف، وقد أضفي طابع السرية لضمان حماية الناجيات من القتل العشائري والملاحقة القانونية في نفس الوقت.
تقول ينار محمد رئيسة منظمة حرية المرأة في العراق للمنصة: “لا يمكن أن نترك امرأة معنفة تلجأ لمنظمتنا إلا ونقدم لها يد العون” وتتابع: “نقوم بإيوائهن في دور آمنة سرية ونقدم لهن الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية وخلال 18عاماً استطعنا ايواء اكثر من (1150) امرأة بعضهن كن معرضات للقتل غسلاَ للعار وأخريات ناجيات من العنف والاتجار بهن”.
وتزيد: “لم نكن قادرات على التنصل من مسؤولية حماية النساء فنحن نؤمن بحق المرأة في الحياة وللأسف الحكومة تفرط بحق النساء في الحياة تحت مسميات الشرف وغيرها”.
واجهت هذه المنظمة خطر الحل والالغاء بسبب شكوى تقدمت بها سكرتارية مجلس الوزراء في العام 2020 بتهمة فتح دور إيواء بدون موافقات رسمية وإيواء نساء هاربات من قضايا عنف و شرف، إلا أن المنظمة نجت من ذلك الخطر بعد مخاض عسير في المحاكم.
هل هناك حل؟
لا تتفق الباحثة النفسية والاجتماعية ابتسام المحنة مع المعالجات التي تقوم بها الشرطة المجتمعية في إعادة الفتيات الهاربات إلى أسرهن بهذه الطريقة والوقت القصير وتقترح إبقاء الفتيات في ملاذات آمنة لتلقي العلاج النفسي وتهيأتهن للعودة بشكل طوعي “حقيقي” وصادر عن قناعة.
كذلك الحال بالنسبة لأسرة الفتاة الهاربة، “يجب أن تكون مهيئة ومقتنعة لاستقبال الفتاة حتى يتحقق الاندماج من جديد وتنتهي مشاعر الغضب والانتقام وعدم الثقة بين الطرفين” تقول الباحثة وتضيف:
“لابد أن تقوم الشرطة بتقصي المعلومات حول الأسرة والتأكد من امكانية استقبال الفتاة مرة اخرى وعدم تعرضها للخطر وفرض ضمانات حقيقة على ذويها بحيث لا يمكن لهم ايذائها او الانتقام منها وإلزامهم بعدم تغيير عنوان السكن أو إبلاغ الشرطة بمكان سكنهم الجديد وزيارتهم بشكل مستمر لحين التأكد من زوال الخطر بشكل نهائي”.
من جانبه يوصي المحامي محمد جمعة بضرورة تشريع قانون مناهضة العنف الاسري لما يحتويه من معالجات مهمة ومناسبة لحماية الناجيات من العنف ويفسح المجال أمام الشرطة المجتمعية لحماية الفتيات الهاربات من خلال ايداعهن في دور إيواء آمنة “حكومية وغير حكومية” وتقديم الرعاية والمساعدة المطلوبة والتريث في إعادة الفتيات إلى أسرهن لتجنب تعرضهن لمخاطر القتل والانتحار والتزويج بالإكراه.
وتقترح فريال الكعبي، رئيسة منظمة “أوان” للتوعية وتنمية القدرات أن يتم توسعة صلاحيات الشرطة المجتمعية وخاصة في التعامل مع الحالات المستعجلة والحرجة و فتح منشأة خاصة بها وزيادة أعداد أفرادها خاصة من العناصر النسوية الشابة وتطويرهم بالشكل المطلوب.
وكذلك تقترح “فتح مراكز استماع وايواء تدار من قبل مختصات بالشأن الاجتماعي والنفسي وأفضل أن يتم اشراك المنظمات النسوية غير الحكومية في تقديم المعالجات ورعاية الفتيات الهاربات”.
وتشير الكعبي إلى أن “مقرات الشرطة المجتمعية في المحافظات تحتاج الى التأهيل والاهتمام بما يؤهلها لأداء عملها ومراعاة خصوصية المشاكل التي تتعامل معها”.