أحيكت حوله الإشاعات وتعرض للإهمال.. ما هي قصة أكبر نصب فنّي في جنوب العراق

العمارة- مهدي الساعدي

من إحدى يديها تتدلى “الكعيبة” وهي إحدى أنواع زنابق الماء التي تنمو في أهوار الجنوب، وفي يدها الأخرى تحمل حمامة السلام وعجلة التقدم للإشارة ربما إلى انتماء هذه المرأة إلى حضارة سحيقة، اما العباءة التي تتأزر بها فربما اراد من خلالها النحات الراحل د. احمد البياتي أن يؤكد للمرة الثالثة أن هذا التمثال يعود لامرأة جنوبية.

نصب المرأة الجنوبية في مدينة العمارة المنحوت من مادة “البليت” وهو خام الحديد، أحد أكبر النصب الفنية التي جسدت المرأة الجنوبية منذ ثمانينيات القرن الماضي، أطلق عليه العديد من الالقاب واحيكت حوله الأساطير  وسخر لصالح الماكينة العسكرية الحربية خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية مما جعله يدفع ضريبة تلك الالقاب، من خلال عدم الاهتمام وتركه يعاني التآكل يوما بعد آخر.

النحات محمد جاسم يقول في حديثه عن النصب لـ “المنصة” إن “هذا النصب الذي يحمل اسم المرأة الميسانية شكلاً ومضموناً هو أكبر عمل فني للراحل البياتي في المحافظة وواحد من أكبر النصب الفنية في المنطقة الجنوبية عموماً، لكنه بدأ يبهت ويتآكل نتيجة العوامل الجوية”.

ويتابع:”لسوء الحظ، العمل انجز من مادة البليت وتلك المادة معرضة للتآكل خصوصاً إن لم تجرى عليها أعمال الصيانة والادامة بين فترة وأخرى” مطالباً بالمحافظة على ديمومة النصب باعتباره “شاخصاً مهما في مدينة العمارة”.

الابداع الفني الذي يشغل مساحات النصب يعود لخيال ويديّ النحات البياتي صاحب الاختصاص الفني النادر في النحت على المواد الصلبة والكتل الضخمة، وبه وظّف كل مهاراته لأنجاز عمل يجسد المرأة الجنوبية حتى بلغ طول التمثال 23 متراً.

يقول استاذ كلية التربية الفنية في جامعة ميسان د. محمد كريم لـ “المنصة” أن العمل يتكون من اربعة اجزاء وقاعدة وهو ضخم ومرتفع، ولهذا الارتفاع تأويل في فلسفة الجمال وفي نظره البياتي للمرأة الجنوبية وتقديره لدورها”.

ويضيف أن “كمية الكتلة المستخدمة من البليت وسمكها البالغ 18 ملم، واستخدام الزوايا وطريقة اللحام الباردة في تجسيد التفاصيل الدقيقة تتطلب خبرة فنية رفيعة، واذا نظرنا في كل الاتجاهات سوف يبدو لنا التمثال شامخاً، لذلك هو عمل صعب التنفيذ”.

وأطلق في الماضي على نصب المرأة الجنوبية اسماء والقاب عديدة منها نصب الماجدة او تسمية “تسواهن”.

وليس من المعروف تماماً سبب التسمية بـ “نصب تسواهن” لكن أشيع في الثمانينيات في الإعلام الرسمي العراقي أن امرأة تدعى “تسواهن” (وهو اسم غير متداول في الجنوب العراقي) قاتلت الجنود الإيرانيين في منطقة شرق دجلة وقتلت عدداً منهم، وهي واحدة فقط من الروايات التي تعود لحقبة ما قبل عام 2003، وخصوصا فترة الحرب العراقية الإيرانية.

يقول د. محمد كريم لـ “المتصة”: “على الرغم من تباين الاراء في النصب ولكني ارى ان د. احمد البياتي ابعد من هذا المستوى، على اعتباره فنان عاش في اوربا لا تهمه اي جزئية بقدر اهتمامه بالجانب الجمالي، ووضع نصب يستطيع ان يقاوم الزمن والتأويلات ويقاوم الانظمة بمختلف مستوياتها”.

امارات عدم الاهتمام بدت بوضوح على النصب الفني المصنوع من مادة البليت الاكبر، ليس على مستوى العراق فحسب بل على مستوى الدول العربية بشهادة المختصين.

يقول النحات محمد جاسم ل(المنصة) “ناشدنا الحكومة المحلية مرارا وتكرارا للاهتمام بالنصب وصيانته، وانا شخصيا انجزت عملا مصغرا تحت عنوان رسالة محبة وسلام، وقد وصل الى رئيس الجمهورية والى نقابة الفنانين، كمبادرة ورسالة محبة للاهتمام بهذا الصرح”.

مضيفا “عند عودة البياتي من سفره وقبل وفاته عام 2014، قدم طلبا للحكومة المحلية لترميم وصيانة النصب بسبب التآكل الذي طاله قبل ما يقارب عشرة سنوات، وتمت الموافقة على طلبه ولكن بقي دون تنفيذ وتوفي البياتي واتت بعده سنوات اخرى والنصب يعاني الاهمال”.

ورغم محاولات “المنصة” معرفة السبب الرئيس وراء عدم صيانة النصب من قبل الحكومة المحلية في ميسان لم نحصل على اجابة، وكل ما تحدث به المسؤولون كان مجموعة من الذرائع منها عدم وجود مستشار ثقافي للمحافظة.

أما قائمقام مدينة العمارة رائد شامل فيقول لـ “المنصة” إن “للنصب الفنية في المدينة عائدية، وقبل ترميم النصب الفنية يجب تقييم الضرر وإعداد كشوفات خاصة بالترميم لكن ليس من صلاحيتنا كوحدة إدارية اعداد تلك الكشوفات بل واجبنا التنفيذ فقط، ونحن لا نعرف بالضبط عائدية هذا النصب لأي جهة، ونتمنى التواصل معنا (من قبل الحكومة المحلية) لاعداد الكشوفات الخاصة بالترميم لأجل ادراجها ضمن مشاريع تطوير المدينة”.

لكن للمختصون رأي آخر حيال التآكل الذي طال النصب المقام على ضفاف نهر الكحلاء في منطقة الماجدية الشعبية، مسقط رأس البياتي.

يقول د. محمد كريم لـ “المنصة”: “تعرض العمل الى التلف ولم يعدنا أحد بترميمه، وباعتقادي السبب يكمن في صعوبة العمل وصعوبة استخدام هذه المادة التي تفرد بها البياتي، وتحتاج الى عقلية نحتية ذات امكانيات عالية في الجودة، خصوصا وان البياتي اختصاص مادة النحت والترميم الفني وحاصل على شهادة الماجستير بالتعامل مع مواد صعبة كالمرمر والبرونز والحجر ومادة البليت، وقد حصّل اختصاصه من مركز نحتي عالمي هو دولة ايطاليا وله أعمال في دول عالمية”.

اليوم، ورغم علو التمثال، إلا أن ارتفاع الاشجار الى مستويات عالية واحاطته بالابنية المرتفعة ساهمت وبشكل كبير في إخفائه بعد أن كان يمثل رمزاً شامخاً في المدينة.

أما الحديقة التي يقوم النصب في منتصفها والتي كانت في السابق محط زيارة العوائل، فقد تحولت بدورها الى سوق لبيع وشراء الاجهزة النقالة المختلفة. ويوماً بعد يوم تزداد التشوهات في التمثال وهو ما يمكن تمييزه من خلال العبارات التي كتبت على قاعدة النصب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى