بحيرة الرزازة.. آخر ضحايا شحة المياه في بلاد ما بين النهرين

كربلاء- هبة جبار الماجد

قبل نحو سنتين غادرت السيدة “جاسمية” التي تعمل في الزراعة وصيد السمك منزلها بالقرب من بحيرة الرزازة في محافظة كربلاء وانتقلت مع زوجها وأبنائها إلى المدينة لتمتهن بيع السمك في السوق.

لم يكن القرار سهلاً بالنسبة للأسرة لكن الأملاح التي ارتفعت نسبتها في بحيرة الرزازة لم تترك لهم مجالاً للبقاء، قالأرض التي كانوا يعيشون منها لم تعد صالحة للزراعة كما أن المنطقة برمّتها بدأت تخلو تدريجياً من الأسماك والطيور. 

تقول جاسمية ذات الأربعين عاماً، والتي تعمل في الصيد منذ كانت في السابعة من عمرها: “تركت أرضي وأهلي وجيراني وجميع ذكرياتي، فإما أن نموت جوعاً أو نهرب للبحث عن سبيلٍ جديد للعيش” وأن “عدد الأسماك التي تموت في البحيرة كبير جداً”. وتضيف بحسرة: “حتى أرضنا المزروعة هلك فيها المحصول لأن الماء الذي يصل إليها قليل وملوث ومالح”.

بحيرة الرزازة، 15 كم غربي كربلاء التي تتغذى من مياه نهر الفرات والمياه الجوفية والأمطار تعد واحدة من أكبر بحيرات الماء العذب في العراق إذ تتسع لحوالي 26 مليار متر مكعب من المياه وتقع في منطقة من الأراضي الرطبة على مساحة تبلغ 1810 كم2.

هذه البحيرة لطالما مثلت بالنسبة للعائلات القاطنة في منطقة الفرات الأوسط مصدراً مهما للزراعة ولصيد السمك، وللترفيه أيضاً، لكنها خسرت 50% من منسوب المياه فيها خلال العامين الماضيين.

حازم، 55 عاما، وهو زوج السيدة جاسمية ويعمل صياداً للسمك يقول: “اختفت جميع أنواع الأسماك التي كانت مصدرا لعيشنا هنا. بدأت تموت ليس بسبب الأمراض، لكن بسبب ازدياد الملوحة التي لا تستطيع الكائنات التي تعيش في المياه تحملها”.

وأضاف “حتى الزراعة التي تعد مهمة لنا قد انتهت، فلا ماء للري، وارتفاع درجات الحرارة أدى إلى احتراق المحاصيل”.

وتابع “حازم” والحزن على بادٍ على وجهه “الآن أضطر إلى العمل في البناء في مركز المدينة، رغم أن عمري لا يحتمل هذه المهنة المتعبة، وكم أتمنى أن أعود للصيد، مهنتي التي تربيت عليها وأحبها”.

خسارة العائلة.. وخيبة الصيادين

في محيط هذه البحيرة وبساتينها كان يعيش حوالي أربعة آلاف شخص يمتهنون الصيد والزراعة، لكن أعدادهم بدأت بالتناقص في السنتين الأخيرتين ولم يبق منهم اليوم سوى 200 صياداً. الحاج أبو حسين، 68 عاما، يمتلك ورشة لصيانة أدوات الصيد وبيع مستلزماتها في منطقة قريبة من الرزازة يقول: “كنا جميعا كعائلة واحدة، نعمل من شروق الشمس إلى غروبها بصيد السمك وزراعة الأرض”.

ثم يضيف: “اليوم غادر معظمنا، فلا جدوى من الصيد أو الزراعة. الموجودون هنا يذهبون يوميا لرمي شباكهم، والحصيلة هي الخيبة دائماً، فإما أن تخرج الشباك فارغة، أو تحتوي على أسماك قد ماتت بسبب ملوحة البحيرة الكبيرة أو التلوث“.

وأوضح أبو حسين أن “من بقى سيضطر في القريب العاجل إلى المغادرة بحثا عن سبيل آخر لكسب لقمة العيش”.

انعدام الحياة هو المشهد الطاغي على المكان هنا، فالمكان يبدو موحشاً، الزوارق متروكة على جرف البحيرة الجافة، والأرض جرداء بلا زرع، والحرارة مرتفعة في المكان أكثر من أي بقعة أخرى في المدينة. 

يستغرب غانم، 24 عاماً، وهو أحد الذين مازالوا يعيشون في محيط البحيرة تدهور الأوضاع البيئية ويتساءل: “لماذا يحصل هذا في البحيرة، لقد نشأت هنا، وسأموت هنا رغم كل ما يحدث من جفاف وجوع”.

وتابع متحسراً: “منظر الناس الذين كانوا يأتون للترفيه كان يبعث الحياة في المكان، فضلا عن الطيور المهاجرة، وحركة الصيادين وقواربهم المنتشرة”. وأضاف “فقدنا كل شيء، أهلنا وأقاربنا وأصدقائنا تركونا ورحلوا، الجو أصبح أكثر حرارة بسبب موت الزرع وجفاف الأرض، ولا أحد في الحكومة يلتفت لمصيرنا”.

البحيرة سوف تجف

بحسب خبراء بيئيين، فإن شح الحصص المائية المجهزة لبحيرة الرزازة هي السبب الرئيس بجفافها وقرب إعلان نهاية وجودها، فضلا عن التغييرات المناخية من احتباس الأمطار وقلتها. 

ويرى الدكتور أحمد صالح، وهو خبير بيئي عراقي أن تعرض البحيرة للتلوث نتيجة تحويل مياه الصرف الصحي إليها، والتوسع الكبير بحفر الآبار الارتوازية العشوائية بالمناطق المحيطة والتي وصل عددها إلى 1000 بئر فاقم من حدة المشكلة، فضلاً عن التوسع بزراعة الأراضي باستخدام نظم الري القديمة، ما أدى إلى انحسار المياه الواصلة إلى البحيرة.

وبين أن نسبة الملوحة في الرزازة وصلت إلى 100 غرام في اللتر الواحد، بينما كانت قبل سنتين بتركيز طبيعي لا يتجاوز 25 غراما. “لقد أدى هذا الأمر لكوارث كبيرة، فعدم قدوم الطيور المهاجرة أثر على التوازن البيئي في المنطقة، كذلك أدى تصحر الأراضي حولها إلى ازدياد درجات الحرارة بشكل ملحوظ بعدما كانت البحيرة تؤثر في انخفاضها” يقول صالح.

ورغم التحديات الكبيرة التي تتعرض لها الثروة والموارد المائية والأحيائية في العراق، فضلا عن التأثر الكبير والسلبي للمناخ والبيئة، إلا أن الجهود الحكومية رغم كثرة التصريحات الرسمية “بطيئة وقاصرة ومحبطة ولا ترتقي إلى المستوى المطلوب” بحسب من قابلناهم. 

فقبل عام تقريبا صرح مستشار وزارة الموارد المائية عون ذياب عبد الله والذي يشغل حاليا منصب وزير الموارد المائية في الحكومة العراقية الجديدة، أن “تركيا قامت بإنشاء العديد من السدود والمستودعات المائية عند منبع نهر الفرات، ما أثر بشكل كبير على حصة بحيرة الرزازة التي تمر بوضع سيء حاليا، ولا يوجد بوادر لإطلاق الحصص بشكل حر لنا من قبل دول المنبع”. 

وأضاف المستشار السابق ووزير الموارد المائية الحالي، والذي تعد وزارته المسؤولة الأولى عن هذا الأمر، بأنه “ليس هنالك أمل بعودة بحيرة الرزازة إلى سابق عهدها”.

وأشار إلى أنه “في بعض الأحيان في المواسم الممطرة تأتي المياه من مناطق الصحراء إلى الرزازة، وإذا لم يفِض نهر الفرات فلن يعد بإمكاننا إطلاق مياه عذبة للبحيرة. ولسوء الحظ فإنه استنادا إلى دراساتنا فإن بحيرة الرزازة ستجف كما حدث مع بحيرة ساوة”.

والدة السيدة “جاسمية” وهي امرأة طاعنة في السن كانت قد توفيت قبل عام، أوصت ابنتها قبل موتها بالرجوع إلى أرضهم قرب بحيرة الرزازة عندما تتحسن الظروف، فالارتباط بهذه الأرض هو ارتباط “روحي” كما توضح جاسمية التي تقول “سأعود يوما إلى تلك البحيرة، وأنفذ وصيت أمي العزيزة”. 

وتضيف: “ننتظر الحل، عسى أن لا يطول انتظارنا، وأن نرجع مع الطيور المهاجرة، حين تعود مياه البحيرة من جديد”.

 

 

*أُنجزت المادة ضمن مشروع “دورها” الذي تنفذه منظمة تاز بانتر بدعم من وزارة الخارجية الالمانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى