“المصفايجية” في سوق الذهب.. “حياتنا متوقفة على ما يخبئه التراب لنا”

بغداد- غدير خنجر 

يمسك الشاب علي كاظم  مكنسته ويحركها ببطء وحذر  فوق أرضية إحدى محلات الصاغة في “سوق دلة” في شارع النهر في بغداد، وبدقة متناهية، وكأنه شخص أصابه وسواس النظافة، يجمع ما وجده في الأرض ويتجه به الى مكان الحرق القريب ليفصل حبات الرمل عن ذرات الذهب.

بعمل هذا الشاب الثلاثيني في مهنة نادرة يطلق عليها هنا في بغداد اسم “المصفايچية”، ينظفون مكان الصاغة ويجمعون غبار الذهب من أرضية المكان أو حتى من النهر القريب من محلات الصياغة.

مكان الحرق هو تنور طيني لحرق التراب والقاذورات الذي يسمى”الطمة”، يضع فيه “علي” التراب المتجمع في طاسة حجرية مستعينًا بملقط حديدي كبير في النار المشتعلة ويغلق عليها بغطاء حديدي ذي قبضة كي لا تحرقه النار المنبعثة من داخل التنور منتظرًا احتراق الاتربة والمخلفات الملتصقة بذرات الذهب.

أما ذرات الذهب التي يجمعها “علي” من النهر القريب من ورش الصياغة، فيوضح أنها تصل إلي النهر عندما يقوم الحرفين بغسل ايديهم بعد الانتهاء من العمل فينزل مع المياه غبار الذهب العالق في أيديهم.

ويضيف:” لذلك عندما لا اجد  ما اكنسه اضطر للنزول الى النهر للبحث فيه”.

ليس علي وحده  من يعمل في مهنة جمع تراب صاغة الذهب فهناك اشخاص آخرين يقتاتون على هذه المهنة التي تبدو غريبة ومتعبه بالنسبة لكثيرين.

يجمع هؤلاء التراب من أمام ورش ومحلات الذهب في سوق دلة، وهو من الخانات التراثية بناه السلطان مراد الرابع العثماني بمحاذاة النهر من جانب الرصافة قبل أكثر من ثمانمئة عام ليتحول في ستينيات القرن الماضي إلى سوق لورش صنع وعرض المصاغات الذهبية.

في هذا السوق يستخدم الصياغ أيديهم وآلاتهم لحفر القوالب وصياغة الذهب العراقي وعلى ضفة النهر القريب منه يستخدم “علي” يديه العاريتين للبحث داخل أكوام المخلفات، فيبدو التورم واضحاً على أطراف اصابع ارجله لقرفصته على ساحل النهر مدة طويلة خلال اليوم، لعله يجد قطع ذهب متناثرة هنا وهناك.

ويطلق صياغ الذهب اسم “المصفايچية”او أهل التصفاية على هؤلاء العمال الذين يكنسون أبواب محالهم وورشهم من التراب لتصفية الذهب  وفصلهُ عن الأتربة والقاذورات.

يركز أبو مازن وهو رجل في السبعينات من عمره نظره الى التنور المشتعل فيما يسرح بذهنه بعيداً عن المكان قبل أن يقرر إخراج طاسة التراب من التنور. 

يقول أبو مازن الذي يعمل في هذا المهنة منذ ثلاثين سنة: “العمل هنا أمر شاق للغاية يحتاج رجال اشداء قويي البنية”. 

يرتدي أبو مازن ومجموعة من العاملين في هذا المكان أقنعة قماشية تجنبهم الاختناق من دخان الحرق، ويمسكون بأيديهم قضيباً من الحديد لإخراج الطاسة الحجرية من داخل التنور المشتعل.

معظم هؤلاء يعملون هنا بشكل متقطع، إذ بدأ عدد الورش بدأ بالتناقص تدريجياً خلال السنوات الماضية بعدما حلّ الذهب الخليجي المستورد مكان الذهب المصنوع في العراق. لهذا “لم يعد هناك ما يكفي من التراب والمخلفات لحرقها” يقول أبو مازن بينما يقطر العرق من جبهته وهو يخرج الطاسة من التنور.

ينادي علي كاظم على “أبو عباس” وهو رجل نحيل الجسم لكن قوي البنية في الواحد والخمسين من عمره، ليحمل  ما أخرجوه من تراب ويضعه في مايسموه “الگنة”، وهي صفيحة من الحديد، ينفث في داخلها الهواء والغاز فتتبخر المواد الأخرى ويبقى فقط الذهب والفضة.

يساعده علي كاظم فيصبون الذهب والفضة في حامض النتريك لتذوب الفضة وتبقى فقط ذرات الذهب من دون أيَّ شائبة بعيار 25.

“هذا العمل أشبه بالموت” يقول علي، إذ يعرض هؤلاء حياتهم للخطر طوال اليوم، عيونهم محمرة نتيجة الدخان الكثيف المنبعث من الحرق وأيديهم متسخة يكسوها السواد وأرجلهم تتورم نتيجة وضعية القرفصاء شبه الدائمة عند حافة النهر وأطراف أصابعهم امتلأت بالقاذورات والطين.

ويضيف علي: “لا يهتم احد بهذه القطع  الصغيرة  لكنها تعني لنا نحن العاملين هنا الكثير، فهي مصدر رزقنا”.

عندما ينتهي علي كاظم من جمع الذهب، يتجه إلى الصاغات المتواجدة في سوق دلة أو في أسواق بغدادية أخرى ويحصل مقابله على المال، وعندما لا ينجح في العثور على مراده يعود إلى منزله خائباً بجيوب خاوية.

يصف ذلك قائلاً: “رزقنا متفاوت من يوم إلى آخر، حياتنا متوقفة على ما يخبئه التراب لنا”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى