بعد فتح شوارع بغداد.. رزق الجوالين يتراجع مع تراجع الزحام
مهدي غريب- بغداد
يعيشُ الكثير من أصحاب المهن في بغداد على زحامات النقاط التفتيشية، فالزحام قد يجلب رزقاً وفيراً كلما كان الطابور طويلاً والعكس تماماً عندما تشح المركبات من تلك النقاط، فكيف بإزالتهِا كلياً من بعض مناطقَ بغداد؟
يعمل عبدالله البالغ من العمر 14 سنة بائع مناديل ورقية بالقرب من سيطرة الجادرية منذ أكثر من خمسة أعوام، إلا أنه الآن يبدو حزيناً على رزقه الذي انقطع بعدما رُفعت السيطرة من مكانها.
انتقل عبدالله أو كما يسمى “عبودي” من قبل معارفه الى تقاطع جامعة بغداد للعمل هناك، يسيرُ بِخَطوات مُتعرجةٍ وأصابعه لا تكف عن طرق زجاج السيارات عله يبيع ولو نصف البضاعة التي كان يبيعها سابقاً.
بينما هو يمشي في متاهات الزحامات المرورية يتحدثُ “عبودي” بلغةٍ تملؤها الحسرة: “يا أخي والله من جنا يم سيطرة الجادرية عايشين بنعيم و يومية اشتغل ب 15 الف دينار بس احنا مثل المثل الفكر فوك البعير وعضة الجلب”.
في الشهرين الماضيين رُفعت تسع نقاط تفتيشية في جانبي الكرخ والرصافة بأمر من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لتخفيف ضغط المركبات التي تغصُ بها العاصمة بغداد ونصب سيطرات بمداخل العاصمة للسيطرة على الوضع الأمني .
تعتبر السيطرات الحضن الآمن للباعة المتجولين الا انها فقدت من اغلب المناطق المهمة في بغداد ليضطر اغلبهم للجوء الى التقاطعات والشوارع الرئيسة المزدحمة التي زادت بنسبةٍ كبيرةٍ بعدد الباعة الجوالين.
الحزن والحسرة لم تقتصر على عبودي الذي راحَ يفكرُ كثيراً بالتأقلمِ معَ زبائنه ومكانه الجديد. اصدقائهُ القدامى يشعرون نفس الشعور الذي يعانيه عبدالله منذ مجيئيه الى التقاطع الجديد.
عباس يبلغ 16 عاماً وهو احد اصدقاء عبودي المقربين يعمل بائعا للشاي عمل اكثر من خمس سنوات في سيطرة الجادرية.
يتحدث ضاحكاً بينما يسكب الشاي إلى أحد زبائنه “يعني وين ما نروح سودة بوجهنا ومو بس هاي حتى العالم عبالهم احنا مكادي والله احنا ناس ناكل بيومنا حتى ما نموت جوع من شالوا السيطرة دحنا ورزقنا طار” .
مع توقف الحركة المرورية يهرول عبدالله وعباس إلى المركبات علهما يبيعان شيئاً يجبر خواطرهما، لكن مع فتح الشارع من جديد يعودان والحسرة تأكل تفاصيل وجوهيهما قائلين: “من الصبح لحد هسة ما بايعين بخمسة تالاف دينار وهسة ساعة ثنتين الظهر”.
يتعرضُ الكثير من الباعة الجوالين الى مخاطرٍ جمةٍ فأحياناً يتم اعتقالهم من قبل القوات الامنية الماسكةِ للأرض لاشتباههم بانهم متسولون مدفوعون من قبل جهاتٍ مسؤولة عنهم.
ليست هذه المخاطر وحدها التي تلاحقُ الباعة بل من أكثر المخاطر التي تواجههم هي تعرضهم للدهس من قبل سائقي المركبات المتهورين.
عبدالله الملقب “عبودي” تعرض للدهس قبل سنةٍ ونصف من قبل مركبة كانت تسير بسرعةٍ كبيرة لكنه استطاع ان يزيح نفسه منها قدر المستطاع لتكون الاصابة في منطقة الساق اليسرى.
يتحدث عبدالله وهو يرفع سرواله مشيرا بأصبعه الى اثر الجرح “يعني الله ستر بأخير ثواني كدرت اوخر على الرصيف جان متت والله , هسة هاي رجلي كلها ابلاتين”.
يَقفُ محمود هاشم البالغ من العمر اربعين عاماً بالقرب من مسجله الذي يصدح بالأغاني العربية حاملاً في يده اليمين اسلاك هواتف الشحن وفي يساره اقراص الـ CD المُدمجة الا انه يبحث منذ ساعات الصباح الاولى عن زبائن يبيعهم بضاعته.
بعدما اخذ قسطاً من الراحة واكل وجبته ينهض محمود هاشم او كما يلقبه أصدقائهُ “ابو عباس” الى التقاطع. يستعد اغلب الباعة ومن ضمنهم محمود هاشم الى حلول ساعة خروج الموظفين فهي تعتبر ذروة عملهم اليومي بعدما يغص التقاطع بالمركبات.
يسير محمود بينَ المركباتِ مناديا بأسعار بضاعته تارة ويقف على حافة الرصيف مشغلا مسجله بالأغاني العربية تارة اخرى عله يبيع اقراصه الا ان محاولته لم تجد نفعاً.
يرجع ويجلس حيث مكانه الأول تحت ظل الشجرة ويتحدث للمنصة بحسرة قائلاً “هنا الناس ما تعرفنا لأن ما متعودين على الشغل بالتقاطعات ويرادنا وقت حتى نعرف شلون نشتغل ونعرف العالم” مضيفاً “احنا رزقنا انكطع بس شنسوي الناس تكره الازدحامات بس احنا عايشين عليها”.
بعدما ازيلت اغلب النقاط التفتيشية وفتحت المنطقة الخضراء ورفعت الصبات الكونكريتية من بعض المناطق شرعت الحكومة بخطةِ لتوسعة الطرقات وفتح انفاق جديدة حتى تكون الحركة المرورية في السنوات القادمة اكثر انسيابية.
قد يضع هذا الاجراء الباعة المتجولين في خطر أو ربما قد ينتهي عملهم بالكامل في الشوارع.
أكثرُ الفئات التي تعمل في الشوارع ما بين 6 _ 16 سنة، الظروف الاقتصادية اجبرتهم على الخروج الى الشارع ومواجهة الحياة بقسوتها، ترك مقاعد الدراسة وضعف ترابط الاسرة مع الطفل أولى التحديات التي تترتب بحياتهم بل خسرانها تماماً.
البعضُ من الباعة الجائلين الأطفال ينخرطون في طريق مظلم ويكونون عرضة للاستغلال البشري من قبل جهات تستغل صغر اعمارهم أما بعضهم الآخر فيكون مدفوعاً من اسرته ومرغماً على العمل.
محمد فرج صديق عبدالله تعرفا على بعضهما بعد وصول الاخير الى التقاطع واصبحت بينهما علاقة صداقة، يتشاركا الاحاديث ويعملان سويةً.
على عربةٍ خشبيةٍ ثابتة يعمل محمد فرج ذو الـ 14 عاما بائعا للسجائر والمناديل الورقية قرب تقاطع الجامعة، لكنه لم يضطر لترك عمله والذهاب الى مكان اخر كما حصل مع عبدالله، بل زاد رزقه بعدما اصبح مكان وقوفه من أكثر المناطق ازدحاماً.
بعد أن جف الشارع من المركبات وسطعت الأضواء الليلية يجلس عبودي على حافة الرصيف جلسة القرفصاء يعد ما حصده اليوم من خلال بيعه للمناديل.
يقول لنا إن المبلغ ليس كافيا لشراء دواء لوالدته المنهكة من أمراضها، ولا بد له أن يجد منطقة أشد ازدحاماً بكثير من منطقته الحالية، منطقة يطرق فيها على زجاج السيارات فيحصل على قليل من النقود تعينه على مواصلة البقاء حياً.