“البويجي” ما زال في بغداد.. رغم النظرة الفوقية
بغداد- مصطفى جمال مراد
في حي المنصور، أحد الأحياء “الراقية” في العاصمة بغداد، يقضي خالد حمدان البيضاني معظم يومه جالساً على كرسيه الصغير مترقباً أن يأتي أحد الزبائن ويمدّ قدمه على “الباقوس”، المكان الذي توضع عليه القدم لتلميع الحذاء.
يعمل خالد في مهنة تلميع الأحذية أو ما يطلق عليها اسم “البويجي” وهي واحدة من المهن القديمة والتراثية التي تكاد تندثر لولا قلة من أربابها يمكن العثور عليهم في الأحياء الراقية أو الأسواق المزدحمة.
أكلت هذه المهنة من خالد الأربعيني جزءاً من عمره ومن طفولته أيضاً فهو يزاولها منذ ثلاثين سنة، تعلمها آنذاك من شقيقه الأكبر “سعد”، وبقي مستمراً فيها إلى اليوم. يقول “لا استطيع تغير مهنتي، تعودت عليها وأحببتها، وأحمد الله واشكره لأنني مقتنع برزقي”.
لا تعرف مهنة ماسح الأحذية “البويچي” تاريخاً محدداً ويرجح أنها ظهرت في أوروبا قبل أن تنتقل في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إلى العالمين العربي والإسلامي، ففي مصر على سبيل المثال مارسها الإيطاليون والأرمن، ثم علموها للمصريين الذين ورثوا المهنة فور رحيل هؤلاء.
ويؤكد خالد أن “مهنة ماسح الأحذية دخلت الى العراق عن طريق المصريين ومن ثم عمل بها الأكراد وبعدها زاولها العرب في بغداد والمناطق الجنوبية الأخرى”.
قبل انتقاله إلى حي المنصور سنة 1996 كان خالد وأخيه الأكبر يعملان في منطقة باب الشرقي في بغداد، وكانت آنذاك من أكثر المناطق التي يتواجد فيها “بويجيين” قبل الغزو الأميركي للعراق بالإضافة لمناطق أخرى أيضاً مثل شارع ابي نؤاس وحي الكرادة.
يقول: “كانت باب الشرقي وكراده وأبي نؤاس من المناطق السياحية آنذاك تزورها مختلف الجنسيات من خارج العراق فضلاً عن عراقيين من محافظات متعددة”. ويضيف: “بعد الغزو الاميركي للعراق تغير حال المنطقة وأصبح إقبال الناس عليها ضعيفاً لما حدث فيها آنذاك من جرائم قتل وانتشار عصابات”.
ولعبت التغيرات التي حصلت في البلاد دوراً في تراجع رزق خالد ورفاقه، إذ كان ماسحو الأحذية في الثمانينيات يتواجدون بكثرة أمام الجامعات والمؤسسات الحكومية لتنظيف وتلميع أحذية الطلاب والموظفين، “أما في الوقت الحالي فمعظم الشباب يرتدون أحذية رياضية أو أحذية من جلود الشامواه وهي أحذية حساسة للماء والورنيش“.
كما يبدو خالد مستاءً من اختيارات العديد من شباب اليوم لأحذية لا تصلح للتلميع، وعتبرها “سيئة النوعية يستعملونها لثلاثة أشهر فقط ثم يرمونها ويقومون بشراء غيرها”.
لكن بعض الزبائن بحسب ماسح الأحذية هذا ما زالوا يرتدون أحذية الجلد الأصلية فيأتون دائما لتلميعها والمحافظة عليها.
وبينما يقوم خالد بتلميع حذاء واحد من زبائنه يقول بحسرة إن هنالك أشخاص ينظرون إليه بـ “عين صغيرة” لأنه ماسح أحذية، ثم يكمل: ” في بعض الأحيان أخجل عندما يتم سؤالي عن عملي لكني سرعان ما أتذكر أن العمل ليس بعيب فأتخطى هذا الشعور”.
ويضيف: “أنا مقتنع بمهنني ولا تهمني نظرة الأشخاص الفوقية فأنا لا أسرق ولا أنهب، بل آخذ رزقي بالحلال”.
ورغم تصالح خالد مع مهنته لكن العديد من الأشخاص يحجمون عن العمل في تلميع الأحذية ويستصعبون فكرة أن يضع أحدهم قدمه أمامهم على “الباقوس”، لكن خالد يشير إلى أن نظرة المجتمع بدأت تتغير تدريجياً تجاه هذا العمل “فالأوضاع الاقتصادية تجبر الناس على كسب رزقهم بوسائل مختلفة” وفق تعبيره.
ويؤكد ذلك بقوله: “لقد رأيت الاحترام من قبل الناس منذ الغزو الاميركي للعراق وحتى اليوم، فأنا أشعر بذلك من خلال أعينهم وتصرفاتهم معي” مشيراً إلى أن هنالك بعض الأشخاص لا يضعون أقدامهم على الباقوس بل يخلعون أحذيتهم كي يقوم بتلميعها.
لكن ليست النظرة الفوقية وحدها ما يجعل معظم ماسحي الأحذية يتمنون أن يتخذوا عملاً آخر لو سنحت لهم ظروف أفضل، فالأجور في هذا العمل بالكاد تسد الحاجات اليومية وفي بعض الأحيان لا تكفي.
يقول خالد: “لو كنت شاباً لتركت هذه المهنة واتجهت إلى تعلم غيرها ففي السابق كنت اخذ دينار من كل شخص ألمع حذائه وكان فيه بركة أما الآن أخذ الفين دينار ولا تكفيني”.
رغم وجود ماسحي الأحذية في بلدان عدة إلا أن أدواتهم متشابهة إلى حد كبير، تكاد تكون نفسها، فيستخدمون الأصباغ بحسب لون الأحذية وفرشاة أسنان صغيرة الحجم لتنظيف الحذاء، وفرشاة لوضع الصبغ على الحذاء وأخرى لتلميعه.
يقول خالد: “نستخدم صبغاً تركياً يعد من أحسن نوعيات الأصباغ في السوق ولا نستخدم الصبغ السائل ذي الرأس الاسفنجي لأنه يسبب الجفاف لجلد الحذاء ويؤدي لتلفه سريعاً”.
ويضيف أن “أحسن نوعية فرشاة لدى البويجية لتلميع الأحذية نسميها ذيل الحصان مصنوعة في هولندا ولا تسبب خدوشاً في الجلد، لكنها مفقودة في الأسواق منذ فترة طويلة وتتواجد فقط لدى المحتفظين بها”، كما أن خالد يستخدم سنارة لتخييط الحذاء إن كان ممزقاً وقطعة قماش قطنية ناعمة لتلميعه.
ويميز خالد بين مهنته ومهنة الاسكافي المختص بخياطة الأحذية وترقيعها مؤكداً أنه قادر على القيام بالمهمة كالاسكافيين لو كانت لديه ماكينة خياطة، “كنت اتمنى العمل إسكافياً لكن ليس لدي القدرة المالية لفتح متجر وشراء آلة خياطة”.
وتبدأ مراحل تنظيف الحذاء بمسح الأتربة العالقة بجلده ثم يتم دهنه بالصباغ باستخدام الفرشاة وبعدها يضع خالد ملمعاً على فرشاة أخرى ثم يستخدم قماشة ناعمة لتنظيف الحذاء من بقايا الصباغ.
الصعب في هذه المهمة بحسب قول سعد الشقيق الأكبر لخالد هو “الروتين الممل” موضحاً أنه يعمل هنا في حي المنصور منذ التسعينات، لكنه لا يقدر على مغادرة كرسيه ليلاً نهاراً بسبب عمله. “هذا العمل يسبب آلاماً في الظهر والقدمين بسبب الجلوس الطويل على الكرسي”.
أما خالد فينهي حديثه للمنصة قائلاً: “أحياناً اعاتب اخي لأنه علمني هذه المهنة وأدعي عليه، لكن حالتنا المادية وقتها كانت صعبة جداً ولم يكن بوسعه أن يدلّني على عمل أفضل”.