من ذاكرة الاحتلال: عشت في منزل صديقتي أياما صعبة والتقيت بعائلتي بعد أسبوعين من سقوط بغداد

 

خلود العامري

رفض السائق عرضي بدفع 100 الف دينار عراقي مقابل ان يأخذني الى منزل عائلتي في كربلاء التي غادرتها قبل يومين فقط وجئت الى بغداد لإكمال عملي في جريدة الاعلام، فالأخبار التي وردت الى كراج العلاوي آنذاك تتمحور حول سقوط كربلاء وتقدم القوات الأميركية نحو بغداد ولن يجازف احد بحياته لأجل المال.

كانت الأجرة المعتادة من بغداد الى مسقط رأسي 2500 دينار عراقي ما يعني اني عرضت 40 ضعفا على الرجل الذي بادرني بالرفض فتقدمت لأسأل رجلا آخر حول الوضع في كربلاء “لم يبقى سوى القليل ستسقط بغداد بعد ساعات معدودة وسأغادر بعدها بحافلتي لأبيعها في كردستان وسأعتبرها مكافأة نهاية الخدمة” قالها بثقة سائق حافلة تابعة لشركة البادية وهي احدى شركات النقل العام آنذاك والذي يبدو انه رسم سيناريو سرقة الحافلة في رأسه مسبقا مؤكدا صعوبة المغادرة.

كانت وجوه السائقين متجهمة وخائفة ويتفاعلون مع أي خبر يرد الى الكراج من أي مكان فلا هواتف أرضية تعمل ولا هم قادرون على المجازفة بحياتهم والانطلاق نحو مدن الجنوب وكان معظمهم ينام في الكراج منتظرا لحظة حسم الأمور.

اصابني اليأس من إيجاد منفذ للعودة الى اهلي فسرت من العلاوي باتجاه برج صدام للاتصالات آنذاك في اليرموك وكانت خطتي اكمال السير الى حي العامرية في شارع المنظمة حيث تقطن صديقتي اخلاص وعائلتها، كانت الشوارع فارغة وقليلون هم السائرون معي فيما اختفت وسائط النقل العام ولم اعد أرى الحافلات المتهالكة التي تنقل الناس والتي يطلق عليها العراقيون تسمية (تاتا).

سرت لدقائق قبل ان اتفاجأ بأعداد كبيرة من المراهقين الذين يرتدون ملابس عسكرية وهم يقفزون من اعلى سور حديقة الزوراء القريبة من العلاوي ويغادرون المكان وفور وصولهم الى الشارع يستبدلون ملابسهم العسكرية بأخرى مدنية كان الجميع خائفون وفهمت من حديثهم ان بعض قادتهم نصحوهم بالمغادرة للحفاظ على حياتهم.

كان متنزه الزوراء آنذاك مليئا بعدد كبير من الجنود وكانوا بمثابة نقطة الصد الداخلية في العاصمة وكان يبدو من وجوههم انهم دفعة جديدة من التجنيد الالزامي، معظمهم لم تظهر معالم شواربهم على وجوههم الشاحبة والخائفة.

وجوه السائقين والجنود كانت تتقاطع في ذهني طوال المسير باتجاه منزل صديقتي وبعد قرابة ساعة وصلت الى نهاية اليرموك باتجاه المنصور فوجدت بعض الشباب والرجال ينتظرون على جانب الشارع لعل احدى الباصات تمر لإخذهم.

كنت المرأة الوحيدة بينهم وكانوا رغم خوفهم يبادلونني نظرات التساؤل وكأنهم يقولون ما الذي اخرج تلك الفتاة الى الشارع في هذه الظروف، كان قرابة نصف سكان بغداد غادروا الى مدن أخرى ونصفهم الآخر اعتكف في منزله يبحث بين الإذاعات العالمية عن خبر جديد وآخرون يبحثون عن بث إذاعة بغداد فقد ليطمئنوا أنفسهم ان كل شيء على ما يرام.

لم أكن خبيرة بمسالك بغداد وشوارعها وازقتها الصغيرة انا الكربلائية التائهة التي لا تعرف سوى طريقا واحدا للوصول الى بيت الصديقة فسلكته وكان طريقا عاما واحدا لو دخلت أي زقاق لأضعت الطريق، تقاطعت مخاوفي مع مخاوف الناس وفكرت ان عائلتي أصابها شيء فتحت الظروف المحيطة بي شهيتي لأفكار سوداوية بدأت تفترس رأسي.

“هل ماتت امي واشقائي، وهل قصفت القوات الأميركية قريتي عند تقدمها؟ اشعر انني لو عدت الى كربلاء لن اجدا أحدا من عائلتي على قيد الحياة، ماذا لو صحت ظنوني هل اقتل نفسي؟” شعرت ان رأسي سينفجر وما أوقف تلك الأفكار للحظات هي تلك الحافلة الصغيرة التي توقفت واخرج السائق رأسه مناديا على الناس “عامرية، عامرية” ركضت مع الراكضين وتمكنت من إيجاد مكان فيها، على الأقل ضمنت وصولي الى بيت صديقتي في حي العامرية.

وصلت أخيرا الى المكان وكانت الشمس تميل الى الزوال كان كل شيء واضحا على ملامحي تحدثت عن السائق الذي رفض اخذي الى كربلاء وعن الشائعات ورويت مشاهداتي عن الجنود الهاربين من متنزه الزوراء تاركين آلياتهم خلفهم وحاملين أسلحتهم الخفيفة والاخبار التي سمعتها عن سقوط مدينتي.

كنا نعتاش على الاخبار والشائعات واخبار مونت كارلو وصوت اميركا وهيئة الإذاعة البريطانية اذاعات اخذت كل منها موقفا مختلفا ثم نعود لنسمع إذاعة بغداد، وبعد ساعتين من وصولي الى منزل عائلة اخلاص سمعنا طرقا على الباب طلب منا والد صديقتي البقاء في مكاننا ليفتح الباب وفجأة تعالت الأصوات في الحديقة “لقد عاد الحمد لله على السلامة” كان شقيق صديقتي يرتدي ملابس عسكرية متسخة ويحمل راية بيضاء في يده مكنته من النجاة بحياته بعدما غادر وحدته العسكرية قرب قضاء المسيب جنوب بغداد.

“لقد انتهى كل شيء وصلوا الى المحمودية (30 كلم) جنوب بغداد وسيدخلون بغداد الليلة او غدا” سألته عن مدينتي قال لا أحد يعلم لقد سقطت والأميركيون في تقدمهم كانوا يطلقون النار على أي شخص يرونه ومن يريد الحفاظ على حياته عليه ان يحمل راية بيضاء كدليل على انه مسالم فيسمحون له بالمرور.

لم أنم تلك الليلة وكنت افكر في عائلتي وفي كل شيء حولي فكرت في المغادرة سيرا الى كربلاء كانت مشاعري تحفزني، سأصل في يومين وسأنام ليلا عند احدى العائلات القروية، لن اجعل أحدا يدفن جثث عائلتي وانا بعيدة عنهم حدث هذا الامر مرة واحدة عندما توفي والدي ولن يتكرر طلبت حينها رؤية والدي اثناء انزاله الى قبره كنت اريد تحفيز نفسي على قبول فكرة موته حينما أرى جسده مغطى بالتراب لكن شخصا من اقاربي رفض هذا الامر والزمني بالبقاء في المنزل وهو يرقد اليوم في المقبرة ذاتها التي دفن فيها والدي.

في الصباح وصلت اخبار جديدة “القوات الأميركية دخلت بغداد” ولم يبقى سوى احتلال الإذاعة وضرب فندق فلسطين الذي اتخذ منه محمد سعيد الصحاف وزير الاعلام آنذاك مكانا لعقد مؤتمراته حول تطورات الأوضاع ، ظهر الأخير خارجا من الفندق بسرعة على احدى القنوات الفضائية وظهرت بعدها الدبابات الأميركية وهي تطوق المكان.

رفض والد صديقتي فكرة ذهابي الى كربلاء ولم تنفع توسلاتي قال لي حرفيا “لننتظر وسآخذك الى اهلك في الوقت المناسب، لو تعرضت الى القتل او الاغتصاب لن أستطيع مواجهة اهلك بعدها، ابقي هنا مع بناتي حتى نرى ما سيحدث”.

لم أكن مقتنعة وكانت نار افكاري تأكلني، بقيت عند بيت صديقتي أكثر من أسبوعين شاهدت خلالها بعض الجيران وهم ينهبون السيارات من شركة قريبة وبعضهم نهبوا الدوائر الرسمية كانت المشاهد تشعرني بانني أعيش احد أفلام الاكشن في هوليود ولم تغادرني تلك الأفكار السوداوية يوما، كنا نقتصد في الطعام وعشنا في الأيام الاخيرة على وجبة شوربة العدس حتى الافران أغلقت ولا يوجد غاز كي نخبز الخبز في المنزل مثلما كنا نفعل في اول أسبوع من الاحتلال.

وبعد شهر جاء والد صديقتي مسرعا من خارج المنزل ليخبرنا بأنه سمع بأن طريق كربلاء مفتوح وان السيارات بدأت تتوجه من حي البياع الى هناك، فرحت وبكيت في الوقت ذاته أخيرا سأغادر لكن هل ماتزال عائلتي على قيد الحياة؟

لم أنم في تلك الليلة بعدما وعدني “خالي أبو اخلاص” كما أحب ان اناديه بأننا سنحاول غدا الوصول الى البياع ومن هناك الى كربلاء افترستني الوساوس والخوف ولم انم ارتديت ملابسي فجرا وتحضرنا للانطلاق، وصلنا الى البياع ومن هناك وجدنا حافلات صغيرة تتجه الى مدينتي، لم تغادرني افكاري السوداء طوال الطريق حتى دخلت المدينة وكانت هناك مفاجئة لم اتوقعها.

للوهلة الأولى شعرت بالصدمة، كل شيء هادئ والحياة طبيعية بشكل غريب وكأن اذرع الحرب لم تمتد يوما الى المكان، حركة السوق والشارع كانت هي ذاتها قبل سقوط المدينة، ربما كان الامر شائعة وهي مازالت خارج السيطرة، أسئلة كثيرة تولدت في ذهني في غضون عشرين دقيقة هي المسافة بين مركز المدينة ومنزل عائلتي، وقبل ان ننعطف يسارا باتجاه القرية شاهدت معسكرا كبيرا لقوات التحالف يبعد قرابة عشرة كيلو مترات عن مركز المدينة فأيقنت انها سقطت بالفعل في يد الجيش الأميركي وعرفت بعدها ان من شروط الاستسلام هي ان لا تدخل القوات الأميركية الى الداخل.

دخولنا القرية غير من وساوسي قليلا ومنحني بعض الامل فلم اجدا آثارا لهجوم على المكان وشاهدت أحد الجيران وهو يسير في الشارع، ويلتفت نحوي باستغراب وكأنه لم يتوقع انني سأعود يوما، صرخ بأعلى صوته “كنا نظنك ميتة الحمد لله على السلامة”. ضغط السائق على منبه الصوت مرارا عند وصوله الى باب منزلنا شاهدت والدتي من بعيد وهي تسير نحونا وتتفحص النازلين من السيارة وللحظة جلست على الأرض لم تعد قادرة على السير وبدأت تبكي فرحا.

فرحة اللقاء بعائلتي والعودة الى مدينتي لم تنسني ان اخبر شقيقي ان بغداد تكاد تكون مدينة ميتة فلا مخابز ولا افران ولا طعام فيها الا ما تبقى  مما ادخره الناس للحرب من الحصة التموينية سارعت والدتي لاقتطاف بعض الفول الأخضر من مزرعتنا ورافق اخي “خالي أبو اخلاص” الى المدينة لشراء بعض المؤونة لأسرة صديقتي التي التقيت بها في نهاية أيار عندما عدت مجددا لأبدأ البحث عن فرصة عمل وعن الزملاء والأصدقاء الذين تشتتوا بعد تلك الاحداث ولازلت لا اعرف ماذا حدث للكثيرين منهم وبعضهم التقيته بعد سنوات طويلة اما صديقتي فما زالت علاقتي بها متواصلة حتى اليوم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى