خضر الياس.. الحياة في قلب بغداد 

بغداد- مينا القيسي

على صورتها كما كانت قبل ثلاثين عاماً يعاد رسم البيوت التراثية في حي التكارتة في بغداد ويعاد رسم النقوشات والتصاميم التي تتزين بها الشناشيل والأبواب والجدران دون إجراء تغييرات على المكان سوى إلباسه ثوب الحداثة، ليغدو هذا الحي مثالاً عن الحي البغدادي العريق بطابعٍ جديد.

التكارتة، او ما يعرف بـ “خضر الياس” محلةٌُ عريقةٌ في جانب الكرخ لها مكانة وخصوصية عند أهالي بغداد إذ تعد من أقدم مناطق العاصمة التي تحظى بأهمية تراثية ودينية. 

وفي التسعينات من القرن المنصرم تحولت أجزاء واسعة من هذه المحلة إلى مشروعات سكنية وأبنية اسمنتية طابقية، لكن التوسع العمراني لم ينجح في  إفقاد التكارتة ذاك الطابع التراثي والروحي الخاص الذي تتمتع به.

ولا يمتلك الجيل الجديد صورة ذهنية كاملة عن المحلة سوى ما نُقل اليهِ عبر لسان من عاش فيها لسنوات وأسعفته الذاكرة في استرجاع رحيق الماضي، كما هو الحال مع الحاج أمجد محمد شنداح، مختار المنطقة.

يقول شنداح  إن “للمحلةِ تسمياتٍ عدة إذ كانت تسمى سابقًا “صدامية الكرخ” ثم  أطلق عليها اسم “خضر الياس” نسبة الى “مقام الخضر” عليه السلام فيها، و تُعرف أيضاً بـ”سوق حمادة” الذي يحظى بشعبية واسعة، وهي في كل الأحوالِ تعود الى منطقة الجعيفر الواقعة بالقرب من جسر باب المعظم”.

وتأسست المحلة سنة 1886 ويذكر مختار المحلة أن عائلته كانت من أولى العوائل التي سكنتها بالإضافة إلى بيت أحمد القاضي، و طوبان، وملا الشيخ نجم، وخلف سنبالو، وبيت عبد كحلة، وغيرها من العوائل ممن ظل اولادهم وأحفادهم يسكنون فيها حتى اليوم.

ويبين شنداح، ” لقد خرّج هذا الحي العديد من النخبة والمثقفين من وجهاء المجتمع، بدءاً من الرؤساء والقادة ورجال الدولة من الطراز الأول مروراً بالمهندسين والأساتذة الجامعيين وصولاً الى الفنانين وأبرز هذه الشخصيات هي: عبد السلام عارف وأخوه عبد الرحمن عارف رئيس العراق سابقاً، والفنان المسرحي والناقد يوسف العاني، والمؤرخ سالم عبود الآلوسي والعالِم نجم الدين الواعظ”.

ويتمتع الحي بمعالم تراثية عديدة منها ثلاثة جوامع، هي جامع طه الذي تم بناءه سنة 1927 وجامع التكارتة الذي شُيّده العثمانيون سنة 1890 وجامع ثريا، كما أن في الحي عددا من المقاهي الشعبية التراثية من بينها مقهى الباشا ومقهى حجي أحمد خضير الذي يقع في مركز الحي.

وبنبرة فخر وبلهجة بغدادية محببة تحدث الحاج شنداح عن منازل الحي قائلاً: “بيوت أيام گبل صغيرة وبيها غرف هوايه، حوالي 365 بيت متداخل ويه بعضها، أكبر واحد بيهم چان بيتنا ومساحته 165 متر، وما چانت أكو فنادق مثل هسه، لذلك ألي جان يرجع من حرب أو سفر يزوروه هوايه ناس ويحتاجون يگعدون بالغرف”.

ويكمل، “أبوية الله يرحمه جان مأمور سجن وحالته المادية زينة، لذلك جان فاتح بيته للخطار والزوار إلي يجون لبغداد من غير محافظة حتى يدرسون بيها، وكل تكاليف السكن والأكل عليه وجان أمعيش اكثر 8 عوائل، وطلعوا من بيتنا شخصيات معروفة أمثال: حامد يوسف حمادي وزير ثقافة سابق، ومدير مستشفى الرشيد العسكري راجي التكريتي”.

تتألف محلة التكارتة من تسعة أزقة أو “درابين” متوزعة من الشمال إلى الجنوب بمحاذاة مجرى نهر دجلة، ولك دربونة منها قصتها المميزة، فهناك زقاق يسمى “دربونة بيت طوبان” نسبة إلى عائلة طوبان المشهورين في بيع الأكلة البغدادية “الباچة” وكان يقصدهم الناس من مختلف المحافظات لطيب طعامهم.

و هناك دربونةٍ أخرى تنسب لبيت “كامل رواك” المعروفين بصناعة القوارب والأبلام، أما بيت سلوم فكانوا يصنعون “الكفف” وهي قطعة دائرية أشبه بالصينية يصنعونها من نايلون التايرات ويستخدموها في نقل فاكهة “الرقي” الآتين بها من محافظة سامراء، فضلاً عن صناعتهم كفوفاً لنقلِ الرمل والحصو.

الحاجة أم أياد، البالغة من العمر 85 عاماً، تتردد الى محلة خضر الياس في التكارتة نهاية كل أسبوع  لزيارة مقام الخضر عليه السلام، وهي تواظب على هذا الفعل منذ سنوات. تقول للمنصة: “أشعر بالأرتياح النفسي الشديد عند ممارسة طقوس التقرب الى الله تعالى وزيارة المقام وإيقاد الشموع فيه يعد جزءاً من هذه الطقوس التي لازال الكثيرون غيري متمسكين بها مثلي”.

وتضيف: “هذا المكان يفتح النفس، خير وبركة، نطب بيه ندعي لنفسنا ولأولادنا، ونخلي مرادنا يم الماي ونوفي نذرنا”.

ويعد مقام خضر الياس من مبانِ بغداد الأثرية وهو ملاذ يتزاحم عليه العراقيون من مختلف الطوائف الدينية، جميعهم يتشارك الاعتقاد بأن الخضر عليه السلام قد نزل فيه وصلى.

وفي كل يوم خميس ومن على جسر الشهداء أو على ضفاف نهر دجلة يمكن مشاهدة ألواح خشبية أو كرب نخيل تحمل شموعاً موقدة تطفو على سطح النهر قادمة من صوب الكرخ وبالتحديد من منطقة الكاظمية والعطيفية والجعيفر متجهة مع جريان النهر إلى مقام خضر الياس.

وكان المبنى في السابق مدرسة قديمة بناها الشيخ محمد أمين السويدي عام 1823 كمحل لسكناه، ثم تحول إلى مسجد عام 1947 مبني من مادة الطابوق والآجر وتعلوه قبة صغيرة مطلبة بالدهان الأزرق الفاتح.

ومن صفاتِ أهل الكرخ القدامى أنهم يلقبون الاشخاص إما بأسماء أمهاتهم مثل “ابن بهيه” أو “ابن امونة”، أو بإعاقة كان يعاني منها مثل “جوقي الأعور” و”حسن الأعرج” أو “بيت الاگرع”، أو بأسم حادثة معينة مثل “حمدي قامة” أو “علي ماما” وغيرها، لذلك كان طبيعيًا أن تسمع أحدهم ينادي بعلوِ صوته على صديقه باسم: “أبو الليل، جهزلي الطاولة شوية وأمر عليك”.

محمود أبو الليل، البالغ من العمر 37 عاماً، صاحب مقهى شعبي في دربونة سوق حمادة، يعمل فيه منذ أربع سنوات. يقول للمنصة: “يعود قِدم هذا المقهى الى مئات السنين، وكان معروفاً باسم مقهى حجي وهاب، وهو من أوائل الرجال الذين عملوا فيه، تزيد الحركة فيه عند ساعات الليل الاولى ولا تهدأ حتى بزوغ الفجر خاصة في أوقات الأعياد والمناسبات الدينية كشهر رمضان”.

ويضيف: “كل الموجودين هنا من المنطقة يعرفوني ويحبوني، والشباب يجون يطلبون چاي ويكعدون يلعبون دومنة وطاولي، والاصغر منهم يلعبون منضدة واني إلي اوفر الهم هذه الالعاب، والفايز بيهم هو إلي يدفع حساب الچايات، وهذا قانون اللعب حتى يصير أكو تنافس بينهم، و راح تسمع صوت لعبهم من راس الشارع”.

يروي محمود سبب تسميته بلقب أبو الليل، فيقول: ” والدي الله يرحمه چان يسهر لأوقات متأخرة من الليل بالكهوة ويه اصدقاءه، وأي واحد يمر بالفرع يشوفه كاعد بكل وقت، فمشت علينا تسمية بيت ابو الليل واني توارثتها”.


ويعتبر كثر من أهالي الحي أن الكرم والتكاتف عند الشدائد هي أهم العادات التي جُبل عليها من سكن هنا طيلة مئات السنين، تشاركوا فيها جنبا إلى جنب في بيوتهم البسيطة ومحالهم الصغيرة التي ألفوها وتآلفوا معها.

عباس مجبل، 35 عاما، من سكنة الحي، التقينا به قرب جامع التكارتة بعد خروجه من صلاة العشاء ودار حديث حول ما يميز هذا الحي، فقال : “من عاداتنا التي حافظنا عليها كسكان أصليين هي اننا نكون في حالة حزنٍ شديد عندما تحصل حالة وفاة حتى اننا نمتنع عن تشغيل التلفزيون حداداً عليه وهذا ما كانت تفعله العوائل العراقية القديمة، ونحرص على ان نؤدي الواجب تجاه عائلة المتوفي”.

ويضيف: “كل الشباب الموجودين بالمنطقة خلصت طفولتهم بالصيد والسباحة، والطفل عندنا أول ما يصير عمره أربع سنوات نعلمه على السباحة حتى يعرف ينقذ نفسه وغيره، لأن أغلبنا بيوتنا على الشط وياما ياما صارت حالات غرق”.



ويتابع مجبل وصف التكارتة بالقول: “منطقتنا أمينة، ما بيها لا بوگ و لا سلب ولا نهب، والغريب والنزل الجديد ألي يچي من غير منطقة نرحب بيه و نتعامل وياه كأنه هو واحد من أهلنا، لأن هو گاعد بأمانتنا وأحنا المسؤولين عنه، يصير من عدنا وبينا وما نسأل هذا منو وشنو ومنين.” يقول.

ثم يوضح والضحكة تعلو شفتيه : “أحنا ما نروح لگرايبنا، همه يجونا علمود يتونسون بالأجواء ويغيرون جو، كل الخدمات ووسائل الترفيه يلگوها يمنا.”


في محلة التكارتة يأتي الزائر من كل حدبٍ وصوب بحثاً عن الصمت والضجيج معاً، فكلاهما موجود هنا، وكأنها نموذج مصغر عن الهوية البغدادية الأصيلة، فما أن يهب عليه نسيم دجلة حتى يحضر في ذاكرته بيت الشعر الشعبي الذي يقول: “يا مسعدة وبيتچ على الشط، ومنين ما ملتي غرفتي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى