“أبو السراير”.. مهنة في طي النسيان
بغداد- فاطمة كريم
وسط اكوام من سعف النخيل يجلس صلاح ممسكاً مطرقته بيد بينما تظهر الجروح والخدوش على يده الأخرى، يعمل بكل تركيز والعرق يتصب من جبينه متفنناً بجعل السعف ليناً وقابلاً للطيّ.
“رغم المأساة التي تمر بها عمتنا النخلة من قطع وحرق وأمراض إلا انها بقيت تفيض كرماً حتى عند قطعها” يقول صلاح عبد المهدي الملقب بأبو حسين ذو 45 عاماً، والذي اتخذ مهنة “أبو السراير” عملاً له في احد محلات سوق الملحاني في منطقة الكاظمية ببغداد.
ارتبطت حرفة صلاح ببلاد الرافدين ارتباطاً وثيقاً منذ آلاف السنين، خصوصاً في المناطق التي يكثر فيها النخيل وسط العراق، وتحديداً بغداد وديالى والحلة وكربلاء.
ويوضح صلاح الذين يعمل “أبو السراير” منذ أكثر من ثلاثين عاماً أنه “في المحافظات الجنوبية لا وجود لهذا المهنة بسبب ضعف تكوين السعف وقلة مقاومته جراء ملوحة الأرض”.
وتتميز هذه الحرفة إلى اليوم بأنها حرفة يدوية خالصة، تراثية الطابع، إذ لم تحل الآلة الكهربائية محل اليد كبقية الحرف التي تطورت مع تطور الزمن، وعلى من يزاولها أن يتمتع بـ “ذكاء وفطنة ومعرفة ليتقنها بأحسن صورة” وهذا أحد الاسباب التي تجعلها متوارثة من جيل الى آخر.
يعمل ابو حسين في محلة الخاص مع ابنه حسين بعد ان كان يعمل مع والده وجده منذ ان كان في الخامسة عشر من عمره، وهو ما جعله يتقن هذا الحرفة ويتميز بها. يقول “حبي لهذا المهنة هو الذي جعلني استمر رغم جميع ظروف الحياة الشاقة التي مررت بها، وقد أصريت على تعليمها لأبني لتبقى موروثاً شعبياً لكل أبناء المحافظة”.
ويشرح ابو حسين مراحل صناعة الأثاث بسعف النخيل، مثل الكراسي والأسرة وطاولة الطعام وأقفاص الطيور، لافتاً إلى أن المادة الاولية في الصناعة هي “الجريد” وهي الجزء المتبقي من السعفة بعد إن ازالة الخوص (الورق) عنها.
وهي عملية صعبة تأخذ الكثير من الوقت كما أوضح ابو حسين الذي يأتي بالسعف من مزارع النخيل ويقوم بتفصيله وقطعه بأداة تسمى “الساطور” بمقاسات واحجام مختلفة حسب الحاجة.
ثم تأتي المرحلة الثانية وهي التشريح بالسكين والتقشير بأداة تسمى “المعلم” وهي عبارة عن مسمار محمول على خشبة، وبعد ذلك يتم تثقيب السعفة بواسطة أداة تسمى “السمبة” ومن ثم طرقها بواسطة ساطور صغير، وبعد ذلك يبقى تشكيلها وفقاً لذوق صاحب العمل لصاحب الحرفي.
برزت هذا الحرفة في”سوق الملحاني” وهي إحدى الاسواق الشعبية في بغداد التي احتضنت هذه الحرفة منذ زمن بعيد وتنتهي حدود هذا الأسواق الخلفية بشارع “الخواصة، وهناك يقع محل ابو علي مجاوراً لمحل أبو حسين.
يتحدث أبو علي عن تاريخ السوق قائلاً إن “هذا الشارع يتميز بصناعة هذا النوع من الأثاث وكان عدد مزاولي المهنة فيه كبيراً اما الآن فيندر العثور على واحد منهم بعد ان واجهت الحرفة بعض الظروف الصعبة”.
ويكمل أبو علي: “ان الذين يتواجدون الان هم أقارب وأولاد الحرفيين السابقين” مشيراً إلى أن عادة توارث الحرفة جعلها تنحصر في قبيلة واحدة او قبيلتين كحد أقصى، وان سبب تسميتها بالسراير هي اهمية صناعة السرير فيها لما يتطلبه من خبرة واسعة وجهد كبير.
وبما أن لكل صناعة موسمها الخاص الي يكثر فيه الطلب على منتجاتها، فإن صناعة السراير تشهد انتعاشاً في أوقات الصيف وركوداً في أيام الشتاء.
يقول أبو علي ” في موسم الشتاء نتحول إلى عاطلين عن العمل بسبب قلة السعف، لان السعّاف يهتم بجني التمر عند الحصاد ويهمل تقطيع السعف لضيق الوقت لديه”.
ظروف زراعة النخيل وجني التمر تؤثر جميعها على اصحاب هذا الحرفة بسبب تغير سعر السعف من موسم لآخر، اذ يبلغ سعره في موسم اللقاح حوالي 60 الف دينار لكل ألف جريدة، أما في موسم الحصاد فيتعدى المائة ألف دينار لكل ألف جريدة، وهذا ما يقلل الربح إلى الحد الأدنى.
يضيف ابو حسين على كلام صديقه ابو علي أن أبرز المعوقات التي تواجههم تتعلق بالسعف ذاته. يقول “هناك سعف رديء كسعف نخلة البرحي وهناك سعف ضعيف أو مريض لا يصلح لصناعة الأسرّة يسمى “الدوباس” نعالجه بالغسل ونقوم بدمج قطعتين منه بدل الواحدة لتقوية الحاجة المراد صنعها”.
سجاد حسن، 23 عاماً، والذي يلقب بـ “سجاد عمارة” لديه محله الخاص في السوق ذاته، يجلس مفترشاً الأرض وإلى جانبه شقيقيه علي و مرتضى اللذان يشاركانه العمل.
يقول سجاد “تركت الدراسة في مرحلة الابتدائية واتجهت مع والدي لتعلم هذه الحرفة، لذلك ورغم عمري الصغير أصبحت من أرباب هذه المهنة”.
يكمل علي الأخ الاكبر لسجاد متحدثاً عن الإهمال الذي تتعرض له حرفة “أبو السراير”، يقول: “لا يوجد اي اهتمام بنا لا من قبل الحكومة ولا أي جهة أخرى بل إنهم يحاربوننا برزقنا”.
ويضيف: “قبل أيام تم غلق الكراج الذي تدخل الناس منه الينا ليتحول مساره الى جهة اخرى وبهذا لم يعد هناك من يأتي إلينا من مرتادي الاسوق سوى قليل من الزبائن الذين يعرفونا”.
لم تنته معاناة أبناء هذا الحرفة بغلق الكراج وعدم دخول الزبائن الى السوق وحسب، فهناك الكثير من الصعوبات التي يواجهونها أبرزها غزو البضائع البلاستيكية المستوردة أسواق بغداد وكثرة الطلب عليها لرخصه ثمنها وسهولة توفيرها.
اما مهنة السراير فيقتصر الطلب على منتجاتها من أصحاب المقاهي والفنادق ومنفذي الديكورات البغدادية وأيضاً من شيوخ العشائر الذين يطلبونها لوضعها في ديوان “المضيف” وبهذا فإن معظم الزبائن هم من فئة كبار السن.
لكن أبو حسين يستمر في عمله رغم كل شيء مستمداً قوته من قوة سعف النخيل، والى جانبه ابنه حسين الذي ينظر الى يد والده محاولاً عدم تفويت أي تفصيل ممكن أن يتعلمه، قائلاً للمنصة: “عائلتنا سوف تبقى مستمرة في هذه الحرفة مهما قست الظروف ومهما تغيرت أحوال السوق”.