السينما العراقية.. بين النفي والعودة من جديد

بغداد- مصطفى جمال مراد
صندوق خشبي كبير حمله صاحبه في بدايات القرن العشرين وجاب به قرى ومدن عدة جامعاً حوله الراغبين بمشاهدة صور تحكي بطولات أصحاب السير الشعبية العربية المشهورين مثل عنترة العبسي وأبو زيد الهلالي.
عرف هذا الصندوقالذي يحوي العجائب والغرائب باسم “صندوق الدنيا” وأحياناً باسم “الصندوق السحري” وكان موجودًا في سوق الميدان ببغداد يثير اهتمام العراقيين كباراً وصغاراً.
تلك كانت البذور الأولى لانتقال فن السينما إلى العراق قبل أن تتحرك الكاميرا السينمائية بالفعل وللمرة الأولى في 26 تموز (يوليو) من عام 1909، بحسب المخرج العراقي عباس جاسم ذي الأربعين عاماً.
يسرد جاسم قصة عرض أول فيلم متحرك صامت في “دار الشفاء” الواقعة في الجانب الغربي من بغداد والتي سميت لاحقاً باسم “سينما بلوكي” قائلاً: “يومها تابع العراقيون بدهشة تلك الصور التي تتحرك فوق شاشة بيضاء وكأنها واقع حقيقي”.
بعدها بقليل وتحديداً في عام 1911 قدمت سينماتوغراف بغداد تحت رعاية الوالي أحمد جمال بيك عروض أفلام قصيرة صامتة وذلك في بستان العبخانة، من بينها الرجل الصناعي، صيد الفهد، التفتيش عن اللؤلؤة السوداء، سباق المناطيد، طيور مفترسة في أوكارها وخطوط حية.
وتلاها عروض كانت تقدم في الاحتفالات العامة والمناسبات الهامة في البساتين العمومية، أبرزها عرض جرى تقديمه عام 1918 وسجّل مآسي الحرب العالمية الأولى، “ومن هنا تضاعف اهتمام المشاهدين بمتابعة أفلام السينما الصامتة”، يوضح جاسم مشيراً إلى أن تضاعف اهتمام الجمهور بافلام السينما الصامتة هو ما دفع ببعض الأثرياء في التفكير لبناء دور خاصة بالعرض السينمائي، وهكذا ظهرت للوجود كل من “رويال سينما” و”أوليمبيا سينما” ودور سينمائية أخرى.
سينما ناطقة
نطقت السينما الصامتة للمرة الأولى في عام 1928 ولم يعد أصحاب دور العرض بحاجة إلى العازفين الذين كانت تتم الاستعانة بهم لإبعاد الملل عن المشاهدين، فقد تكلمت السينما لأول مرة من خلال فيلم “ملك الموسيقى” وبعدها بسنوات أنتج العراق أفلامه الخاصة.
يقول “عباس جاسم” “ظل القطاع الخاص يستورد الأفلام من أوروبا ولم يبدأ بالإنتاج إلا في الأربعينيات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية”.
ويكمل “بدأت صناعة الفيلم هنا في بغداد فأنتجت “شركة الرشيد العراقية المصرية” خلال عام 1946 أول فيلم عراقي بعنوان “ابن الشرق” للمخرج المصري نيازي مصطفى“. وفي العام نفسه تعاونت شركتا “اتحاد الفنانين المصريين” و”السينما الحمراء” من أجل إنتاج فيلم ثانٍ وهو “القاهرة بغداد”.
ويعتبر عام 1949 التاريخ الحقيقي لولادة السينما العراقية، إذ أنتجت الكوادر الفنية العراقية فلم عراقي كامل بعنوان “عالية وعصام” وتشكلت بعدها شركة “دنيا الفن” لصاحبها “ياس علي الناصر” والتي أنتجت فيلم “فتنة وحسن” الذي يحكي عن الريف العراقي.
يصف جاسم ذاك الفيلم بأنه “من أنجح الأفلام العراقية” إذ حصد آنذاك أرباحاً وصلت إلى خمسة أضعاف تكلفة إنتاجه.
وفي الثمانينيات كانت المؤسسة العامة للسينما والمسرح تملك جميع مقومات السينما الناجحة من أجهرة تصوير ومعدات واستديوهات تظهير الصورة، وقد أثارت إعجاب الكثير من الفنانين العرب الذين زاروا العراق مثل المخرج المصري يوسف شاهين والممثل فريد شوقي.
يقول محمد الحمداني الرجل ذو الواحد والسبعون عاماً والذي كان يعمل في إحدى دور العرض السابقة في بغداد: “في السبعينيات كان رواد السينما يتسابقون لقطع تذاكرها لمتابعة أحدث الأفلام التي تعرض، وكان هنالك ثقافه كبيره لارتياد السينمات”.
ويضيف: “تعد الستينيات والسبعينيات الفترة الذهبية للسينما العراقية، بعدها بدأت تتضاءل رغبة العائلات ثم شهدنا هجرة أصحاب دور العرض ومستوردي الأفلام في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات”.
هذا الانحسار في حضور السينما في المجتمع العراقي يعزوه مختصون لتخلخل الوضع الأمني ليلاً وكذلك تدهور الأوضاع الاقتصادية وما شهدته البلاد من حروب، لتتجه تدريجيا معظم السينمات لعرض أفلام غير هادفة.
السينما كمخزن للبضائع
بعد العام 2003 تحولت معظم دور السينما إلى مخازن للبضائع، بعضها الآخر بات مهجوراً وجزء منها كان مكاناً لعرض أفلام إباحية وراء أبواب مغلقة.
هكذا شارفت صناعة السينما على نهايتها في بلاد الرافدين لولا بعض المحاولات الجادة التي قام بها فنانون عاشوا في العراق زمن الحرب والحصار، أو عادوا إليه بعد سقوط النظام، كان هدفهم إنقاذ ما تبقى.
يقول عباس جاسم إن ما يقدم اليوم من أفلام “ما هو سوى محاولات من صناع الأفلام لإبقاء العراق على خارطة الإنتاج السينمائي“، مشيراً إلى أن “وزارة الثقافة لم تبذل أي جهد لدعم صناعة الأفلام هنا”.
وبينما ينشغل جاسم و مخرجون آخرون بالبحث عن مخارج لعرض أفلام عراقية مستقلة، ظهرت في السنوات القليلة الماضية محاولات أخرى للاستثمار في قطاع العروض السينمائية في أماكن التسوق في أكثر من مدينة عراقية.
أبرز تلك المحاولات مشروع أطلقه المهندس العراقي زيد الخفاجي الذي أسس شركة IRAQI CINEMA منطلقاً من عشقه لهذا الفن منذ صغره، فعندما كان يسافر زيد مع أسرته إلى خارج العراق كان يخصص يوماً كاملاً على حد وصفه لمشاهدة الافلام مع أسرته، ومن هنا بدأت فكرة إنشاء صالات سينما بحلة جديدة وبمعايير دور العروض العالمية وبأحدث تقنيات الصوت والصورة.
يقول علي الساعدي مدير علاقات هذه الشركة إن أول صالة سينما من هذا النوع افتتحت عام 2012 في نادي الصيد في بغداد، وكان هنالك تخوف من عدم تقبل الناس لصالات السينما بعد هذا الانقطاع الطويل.
واكمل قائلاً “فوجئنا حينها بكمية الإقبال الجماهيري على الأفلام المعروضة إذ كانوا متعطشين جدا لمشاهدة الأفلام داخل السينمات”.
عقب تلك التجربة جرى افتتاح عدد من الصالات في اربيل وفي مجموعة من مراكز التسوق مثل مول المنصور ومول النخيل ومول بغداد ودريم ستي، وسوف يفتح عدد كبير من صالات الآخر في مولات اخرى.
يقول الساعدي: “أعدنا افتتاح سينما المنصور من جديد وسوف نعمل على إحياء مسرح المنصور لعرض مسرحيات تستهدف جمهور العائلات، كما كان في سابق عهده بل بشكل أفضل من السابق”.
وكانت الشركة قد عملت على إعادة تأهيل سينما المنصور المهملة طوال السنوات الماضية فتم تجديدها بفترة قياسية، خلال عشرة أيام فقط لتفتتح في أول أيام العيد بتوجيه من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وبإشراف شركة IRAQI CINEMA.
وتتألف سينما المنصور من قاعة كبيرة واحدة كنظام السينمات العراقية السابقة، “أما سينماتنا الأخرى فكل واحدة منها عبارة عن مجمع يضم قاعات عديدة تعرض أفلام مختلفة” يوضح الساعدي.
وقامت الشركة بعرض عديد من الأفلام العراقية بعضها من إنتاجها مثل فلم “إلى بغداد” لكن توجه الجمهور إلى الافلام العراقيه “ما زال ضعيفاً” بحسب وصفه مستثنياً الأفلام الكردية التي عرض في اقليم كردستان، والتي تلاقي إقبالاً جماهيراً واسعاً.
أما في بغداد، “فقد عمل الكثير من الشباب المبدعين على انتاج وتصوير أفلام هامة على المستوى الفني، لكنها مع الأسف لم تلق النجاح المطلوب”، وأضاف:” لقد فوجئنا بنجاح الدراما العراقية في هذه السنة ولو استمر هذا النجاح للسنة القادمة فسوف يشجعنا على انتاج أفلام عراقية مرة جديدة”.