خان المدلل.. ذاكرة بغداد بين أربعة جدران

فاطمة كريم- بغداد
تدخل خيوط الشمس الرفيعة إلى خان المدلل في بغداد فينعكس ضوؤها على أواني النحاس التي تملأ المكان من كل جانب، وكأنّها إعلان عن بدء نشاط السوق وعن قرب قدوم المتسوقين لشراء التحف والأنتيكات.
خان المدلل واحد من أقدم خانات العاصمة، يقع في سوق الميدان التاريخي المنشأ منذ أكثر من 120 عاماً، وتعود ملكيته الى عائلة المدلل البغدادية التي كانت تستخدمه سابقاً نزلاً للزوار القادمين من خارج بغداد ومخزناً لبضائع التجار.
مع مرور الزمن تحول الخان إلى فندق عرف باسم “الهلال” وبعدها إلى مقر تجمع ثقافيا إلى أن رمّمته الحكومة العراقية سنة 1989 ليصبح مجمعاً تجارياً تابعاً لأمانة بغداد يضم في كلا طابقيه عدداً من المحال المتخصصة ببيع الانتيكات والمقتنيات التراثية والعملات والطوابع القديمة.
محمد الكناني الملقب بـ “أبو زينة” رجل في الستينات من عمره يمتلك محلاً في الخان منذ عام 1976 يبيع فيه التحف والاغراض المنزلية البغدادية القديمة، يقول “يأتي الى هذا السوق هواة المقتنيات القديمة من جميع محافظات العراق وسواح من خارج البلاد يبحثون عن كل ما هو قديم وجميل”.
بدأ الأمر عند أبو زينة منذ صباه، عندما كان يجمع العملات القديمة والمصورات الورقية وقطع الاثاث التقليدي إلى أن قرر أن يتخذ من هوايته في جمع الانتيكات عملاً خاصاً به وان يستمر به طوال سنوات عيشه.
تاريخ هذا الخان وما ينطوي عليه من قيمة ثقافية يظهر من علاقة هذا البائع بالمكان حيث “كل قطعة هنا تمتلك قصة لا تقدر بثمن” بحسب وصفه.
يقول أبو زينة: “القطع المعروضة هنا لا يوجد مثيل لها في اي مكان وتعبّر عن حقب تاريخية شتى مرت بها البلاد كالحقبة العثمانية والملكية ثم الجمهورية”.
غير أن الخان اكتسب مكانة خاصة ليس لدى العراقيين وحسب بل عند عموم العرب بعد أن زارته السيدة أم كلثوم وأحيت حفله بين أرجائه فاكتظ الخان يومها بالجمهور ترحيباً بزيارة كوكب الشرق التي انشدت أغنية “قلبك صخر جلمود” للراحلة سليمة مراد من ألحان الفنان العراقي صالح الكويتي.
يتحدث ابو زينة عن اهمية المكان قائلاً: “يأتي الكثير من الزائرين وبشكل يومي من مختلف الاعمار وغالبا ما يأتي الفنانين والمخرجين بحثاً عن قطع إكسسوار واثاث أو عن عملات النقدية وهواتف قديمة وكل ما تتطلبه الأعمال الدرامية التاريخية”. ويذكر أن من أشهر الاعمال التي تم تجهيز ديكوراتها من هذا الخان مسلسل “مناوي باشا” و”خريف العنقاء” التي جسدها عدد من كبار الفنانين في العراق.
رغم تاريخ المكان وقيمته التراثية إلا أنه يعاني من إهمال شديد دفع أصحاب المحال المتواجدة فيه للمطالبة بتجديده وترميمه، منهم مؤيد حبيب الذي يمتلك محلاً في الطابق العلوي من الخان.
عند دخولك محل هذا البائع ترى الفوانيس معلقة في السقوف والسيوف التراثية على الجدران إلى جانب صور الملك فيصل وعبد الكريم قاسم والعديد من حكام العراق والكثير من مجلدات الكتب الثمينة ومسكوكات الفضة والذهب.
عند لقائنا بحبيب كان جالساً وسط مقتنياته يستمع إلى أسطوانة للسيدة فيروز، يقول “تراث العراق هنا، تراثه بين اربعة جدران، لكن للأسف لا يوجد من يعتني به”.
يكمل حبيب “الكثير من السائحين يترددون الى الخان وهناك كبار الفنانين والسياسيين لكن الخان ليس بالشكل المطلوب الذي يليق به، نطالب بأن تخصص بازارات اسبوعية لتجار الخان وان تهتم الجهات المعنية به مثلما حصل من حملة اعمار وتأهيل سوق المتنبي”.
ويضيف ابو زينة “لا نريد أن نفقد الخان، ويجب أن يشكل البغداديون رابطة لحماية تراثهم الذي تغنّى به كبار المطربين العرب مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ووديع الصافي”.
مؤيد حبيب وابو زينة ما زالا يحتفظان بنسخ من صور تلك الحفلات فقد كانت الخانات في بغداد آنذاك المقصد الرئيس لأي نشاط ثقافي أو فني واجتماعي واحياناً السياسي، خصوصاً في العهد الملكي في العراق.
ويتابع حبيب “تمثل الأنتيكات هوية البلد وتحمل قيمة وطنية، كما ان محلاتنا اليوم بمثابة متاحف عالمية مصغرة لأنها تحتوي على بضائع من حضارات مختلفة وبلدان عديدة”.
ولدى سؤاله عن مصادر مقتنياته قال حبيب انه جمع الكثير منها من خلال شرائها من عوائل وورثة عدد من الشخصيات السياسية والاجتماعية المعروفة في العهود السابقة اي العهدين الملكي والجمهوري والذين كان بعضهم يحتل مناصب وزارية وادارية مهمة. “كنت أزروهم في بيوتهم للاتفاق معهم بخصوصها، وهي مقتنيات تضم الكثير من الصور والوثائق الشخصية القديمة والاوراق الثبوتية والمكتبات الشخصية العائدة لهم اضافة الى اللوحات الفنية والخطية المزخرفة والكتب التي يضطرون لبيعها لظروفهم المعيشية والحياتية الصعبة التي يمرون بها”.
أما عن الأسعار فشير أبو زينة إنها تختلف حسب القيمة التاريخية للقطعة ونوعها، “لا يوجد سعر موحد هنا.. هناك ما هو زهيد الثمن والمتوسط والغالي الذي قد يصل الى الملايين حسب قيمة القطعة”.
أبو علي أحد اقدم زائري خان المدلل، يتردد إليه منذ عقدين من الزمن مرةً في الاسبوع على الأقل. يطلع أبو علي على الأثاث والقطع الجديدة ويبحث عما يستهويه، فهو مؤرشف على موقع اليوتيوب لاشرطة الأفلام القديمة.
يقول”روح بغداد هنا.. نأتي كل ما تضيق بنا الشوارع والمنازل”، ويتابع “يكاد لا يمضي أسبوع واحد إلا وأتيت بحثاً عن أفلام جديدة وقطع أخرى نادرة”.
أبو زينة مؤيد حبيب وكذلك زبائن الخان ناشدوا في لقاءاتنا معهم الجهات المعنية وتحديداً أمانة بغداد بأن تولي اهتماماً أكبر بهذا المكان والعاملين فيه، فعلى حد وصف أبي زينة، “خان المدلل معلم حضاري وتراثي وفقدانه يعني فقدان العاصمة جزءاً هاماً من ذاكرتها”.