ما الذي سجله “مصلح الصوبات” العراقي في دفتر ملاحظاته؟

المنصة- غدير الخنجر

في ورشته الصغيرة في منطقة الشعب في بغداد يجلس أبو حيدر مرتدياً قفازاتٍ ملطخة بسخام مدفأة يقوم بتبديل فتيلتها وإلى جانبه عشرات المدافئ تنتظر دورها في التصليح.

تقاطعه بين حين وآخر اتصالات من زبائنه، يسألونه إن كان بمقدوره تبديل فتيل المدفأة النفطية في اليوم نفسه، فالجو بارد ولا يمكنهم إبقاءها عنده حتى يوم غد. تنتهي المكالمة بطمأنة الزبون ثم يعود أبو حيدر إلى الفتيل، يتأكد من قياسه ويهمّ بتثبيته.

بلغ أبو حيدر الخمسين من عمره، يعرف في منطقته باسم “مصلح الصوبات” ويرتاد محله الصغير زبائن من أحياء عديدة كالغزالية والأعظمية وغيرها. يقول إن تصليح المدفئة أو “الصوبة” كما تسمى في الدارجة العراقية عملية باتت أكثر تعقيداً من السابق وتتطلب مهارات إضافية، فالنفظ المستخدم في المدافئ معظمه مغشوش بمواد أخرى تسبب تلفاً في المدفأة وتحديداً في الفتيل.

ينتقل أبو حيدر إلى مدفأة أخرى، يبدأ بتنشيف قاعدتها بسشوار كهربائي لتخليصها من الرطوبة الذي قد تسبب صدأً بالمعدن مع مرور الزمن. ما أن نسمع صوت هدير السشوار حتى يعلو البخار الذي كان يتجمع في داخلها بسبب النفط المغشوش بالماء.

يزاول ابو حيدر عمله منذ ثمانينيات القرن الماضي. كان في أيام صباه يعمل في سوق شلال في حي الشعب في بغداد مع آخرين يكبرونه سناً، تعلم منهم تصليح جميع انواع المدافئ وتعلم أيضاً كيف يصارع الحياة ويؤمن لقمة العيش. 

“كانوا يعطونني خمسمائة دينار عراقي مقابل عملي من السابعة صباحاً الى العاشرة ليلاً” ويتابع: “دأبت على تسجيل  جميع الملاحظات وطرق  التصليح حتى أتقنت العمل وافتتحت ورشتي الخاصة، وبعد أن تقدم بي العمر قررت أن أنتقل إلى ورشة جديدة بالقرب من منزلي”.

تبدأ الاستعدادات لصيانة وتركيب المدافئ النفطية في العراق مع بدء حلول فصل الشتاء، ففي ليالي الشتاء الباردة تتجمع العائلة العراقية حول “الصوبة” في اجواء تمتاز بالحميمية والدفئ. 

ورغم انتشار اجهزة التدفئة الكهربائية الحديثة في الأسواق إلا أن الصوبة ما زالت متواجدة في معظم البيوت  كمتحف لذكريات العائلة، وهناك انواع شهيرة منها يفضلها العراقبون كصوبة “علاء الدين” ذات البرج الفستقي متدرج الألوان، إذ لم تكن الألوان الحرارية مستخدمة في ذلك الوقت .

بعد أن انتهى أبو حيدر من تجفيف قاعدة الصوبة من الماء وتركيب الفتيل الجديد أوضح للمنصة أن هناك عدة قياسات للفتيل، والقياس الصحيح مكتوب على قاعدة كل مدفأة ويتطلب التمعن في النظر لقراءته، اما في السابق فكان هناك قياس واحد فقط.  

يكمل: “ارقام القياسات كانت ثابتة قديماً في صوبات علاء الدين  وفوجيكا وسانيو  بينما أنواع الصوبات اليوم اختلفت فصار هناك العديد من القياسات والعديد من الأشكال وطرق التركيب، فالفتيل في بعضها على شكل زر، وفي بعضها الآخر نقوم بتثبيت الفتيل بأسنان معدنية في قاعدة الصوبة”.

ويوضح “مصلح الصوبات” أن الفتائل في السابق كانت  تدوم من أربعة الى ستة مواسم لكنه الآن يضطر لتغيير الفتيل في الموسم الواحد أكثر من مرة بسبب النفط المغشوش الذي يخلط بالماء.

يحوي محل ابو حيدر جميع قطع التبديل والمعدات اللازمة لإعادة المدفأة إلى الخدمة، من زجاج حراري باشكال وقياسات مختلفة، وفتائل أصلية بقياسات متعددة ذات منشأ كوري أو ياباني يحصل عليها من سوق الشورجة وسوق الصفارين أو من سوق الطباخين في مدينة الصدر.

ويؤكد أن الخبرة هنا ضرورية لتمييز القطع الأصلية عن المقلدة، “فبعض فتايل وزجاج الصوبات يقال عنها اصلية لكنها تصنع في دول مجاورة بمواصفات أقل بكثير لاتوازي الصناعة الاصلية التي تكون قادرة على امتصاص النفط وإيصال الاحتراق إلى رأس الفتيل”.

كريم محمد أحد زبائن ابوحيد،  قدم إلى المحل أثناء تواجدنا فيه، بدا سعيداً عندما علم أن صوبته باتت جاهزة، بامكانه تحميلها في سيارته وتركيبها من جديد في المنزل لتعيد الدفء إلى أرجائه. يقول كريم إنه اعتاد على تصليح المدافئ في هذه الورشة المتواضعة لأن المدفأة “تصمد عدة مواسم عندما تكون بين يدي أبي حيدر، كما ان أسعار الأخير مناسبة للفقراء وذوي الدخل المحدود على عكس كثير من الورش التي تتقاضى أسعار تصل إلى ربع ثمن المدفأة أحياناً.

أما أبو حيدر الذي كان يبتسم لإطراء زبونه فيؤكد أن هذه المهنة التي تبدو بسيطة جداً تتطلب دقة واتقاناً ومسؤولية في التعامل مع الزبائن، عازياً فضل نجاحه إلى ذاك الدفتر الصغير الذي يضيف إليه كل موسم شتاء المزيد من الملاحظات، حتى بعد مرور وقت طويل على مزاولته المهنة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى