أم أيمن.. بائعة اللبلبي في آخر محطات المسافرين
بغداد- مصطفى جمال مراد
اعتاد السائقون والمسافرون في كراج النهضة وسط العاصمة بغداد على رؤية السيدة الأربعينية “أم أيمن” تقف وراء عربتها منذ ساعات الصباح الباكر تبيع أكلة اللبلبي التقليدية.
تعمل هذه السيدة هنا منذ عشر سنوات لإعالة ابنها الوحيد بعد وفاة زوجها. “عندما قررت العمل هنا لم أبالي بالعادات البالية ولا بكلام الجيران والأقارب عن خطورة العمل في كراج للنقل العام أو في مكان محاط بالرجال، واستطعت خلال فترة وجيزة أن أكسب ثقة واحترام الجميع”، تقول أم أيمن بينما تملأ صحن لبلبي لسائق سيارة أجرة يقف في الطابور.
واللبلبي أكلة عراقية شعبية شتوية تتألف من الحمص المسلوق ومنكّهات أخرى تختلف من محافظة لأخرى، لكن معظم العراقيين يعتبرونها أكلة مقاومة للبرد يتناولونها في الصباح الباكر أو في ساعات المساء.
يومياً تقف أم أيمن في الكراج من الثامنة صباحاً حتى مغيب الشمس، زبائنها من مختلف شرائح المجتمع كما تصفهم، أما العربة التي تبيع عليها وجبتها التقليدية فليست ملكها إنما تعود لسيدة تسكن معها في المنزل نفسه. “أعمل على هذه العربة بأجر يومي بينما أمتلك عربة ثانية أبيع فيها قناني مياه الشرب” تقول.
أم أيمن هي الوحيدة التي تبيع اللبلبي في كراج النهضة لكن الكراج يضم عشرات الباعة الجوالين الآخرين، تم بناؤه في زمن صدام حسين وافتتحه عام 1977 ليصبح مركزاً رئيساً للنقل الداخلي والخارجي يضم محطات للحافلات والشاحنات ومواقف لسيارات الأجرة.
اختارت أم أيمن هذا الكراج مكانا لعملها لأنه مكتظ بالمسافرين وسائقي الحافلات والسيارات وبالتالي فبيع اللبلبي يشكل مصدر رزق مضمون لها في أوقات البرد، ويقبل على الاكلة معظم المتواجدين في الكراج سواء كانوا سائقين أو مسافرين.
أما في أوقات الصيف فتقف أم أيمن في المكان نفسه لكن مع عربةٍ تبيع فيها عبوات المياه. “في درجات الحرارة المرتفعة لا استطيع بيع شيء غير الماء، فاللبلبي أكلة غير مناسبة لفصل الصيف والمشروبات الغازية أسعارها مرتفعة لا أقدر على شرائها”.
لا تفصح أم أيمن عن سر مذاق اللبلبي الذي تعده وتكتفي بالقول أنه تحضّره على الطريقة الموصلية إذ تنحدر والدتها من مدينة الموصل الشهيرة بمطبخها العريق، لكن الطريقة التقليدية المعروفة لإعداد اللبلبي تتم من خلال نقع كمية من الحمّص في قدر كبير لستة ساعات ثم نقله إلى قدر آخر وسلقه مع البهارات على نار هادئة حتى ينضج.
وتبيع أم أيمن الوجبة الواحدة بألف دينار عراقي وهو السعر الشائع لدى معظم الباعة في بغداد، وتكمل قائلة: “أجري اليومي يبلغ خمسة عشر ألف دينار، أخصص عشرة ألاف منها لدفع إيجار منزلي أما الباقي فأسد به حاجتي اليومية”.
لا يقتصر تواجد عربات اللبلبي على العاصمة بغداد، فأينما تضع قدميك في أي محافظة عراقية تعثر على عربات الباعة المتجولين في الشوارع بكثرة في فصل الشتاء، لكن نادرا ما تجد امرأة عراقية تعمل في هذه المهنة مثل أم أيمن.
في الكراج يمكن من بعيد مشاهدة الابتسامة تطفو على وجه أم أيمن بينما يقبل الناس على عربتها يتناولون صحون صغيرة من اللبلبي تضيف إليها لمساتها الخاصة، فتضع الملح والفلفل الأسود والقليل من النارنج الذي يخلق نكهة مميزة.
وتعتبر أم أيمن بيع اللبلبي المهنة الانسب لها، تحبها وتمارسها بحريتها، “لا أحد مسؤول عني ولست مسؤولة عن أحد، كما أن واجباتي الأسرية لا تسمح لي بتعلم مهنة جديدة”.
تروي السيدة الأربعينية بفخر كيف انقلبت نظرة المحيطين بها من الاستنكار التام إلى التشجيع والدعم المستمر خلال السنوات الماضية، “ليس فقط أقاربي، بل كل من حولي من السائقين والعاملين في هذا الكراج باتوا سنداً لي وبمثابة أولاد أو أخوة”، على حد وصفها.
لكنها تشتكي من أن بعض الأشخاص ما زالوا ينظرون إلى بائعي العربات بتعالٍ واستخفاف يفتقد إلى الاحترام كما أن “بعضهم لا زالوا يؤمن بأن مكان المرأة هو المنزل فقط”.
يقول السائق أحمد الشمري، 32 عاماً، وأحد زبائنها الدائمين: “أنا أرى أم أيمن هنا كل يوم منذ بداية عملي هنا منذ خمس سنوات” ويعتبرها “امراة مثابرة وشجاعة تعمل إلى الليل وتبدأ من جديد في الصباح”.
ويكمل “ليس هنالك شخص في كراج النهضة لا يعرف أم أيمن فكلهم بمثابة أخوتها وأولادها ويشترون منها اللبلبي الذي يتميز بطعمه المختلف عن سائر عربات اللبلبي في بغداد”
أما أم أيمن فتشجع النساء على العمل وعدم الاستسلام لظروف الفقر أو للعادات البالية، وتقول بينما تملأ صحن اللبلبي لهذا السائق: “حبات الحمّص الصغيرة هذه هذه جعلت مني امرأة مستقلة قادرة على إعالة أسرتي ونيل الاحترام ممن حولي”.
انجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)