بعد أربعة عقود.. ما الذي تبقى من شارع الرسامين في بغداد؟

حسنين علاء- بغداد

في أحد الأزقة الصغيرة التي تتفرع من حي “الكرادة داخل” بعيداً عن صخب المركبات وحركة المارة يتجمّع عدد من صالات العرض (كَاليري) تعرض لوحات وأعمال فنية لرسّامين عراقيين ضمن مجمع يدعى “مجمع الرسامين للفنون التشكيلية”.

يضم المجمع ورش رسمٍ مختلفة يعود تاريخ تأسيسها إلى سبعينيات القرن الماضي، منها ورشة الرسام محمد الخفاجي صاحب الـ 47 عاماً الذي كان يجلس بين لوحاته عندما دخلنا المكان.

يقول الخفاجي إنه تربى هنا وعاش طفولته بين الألوان والإطارات وتعلم مختلف تقنيات الرسم ثم باع الكثير من لوحاته فيه وزادت خبرته يوماً بعد يوم،  مضيفاً أنه لا يستطيع أن يفارق المجمّع كالسمكة التي لاتستطيع ان تخرج من المياه.

تأسس “شارع الرسامين” كما يدعى سابقاً عام 1975 على يد علي الخفاجي والد محمد. رغم أن الأخير لم يكن رساماً إنما نجار يمتلك محلاً لبيع الاثاث المنزلي وغرف النوم، لكن القصة بدأت حين جاءه فنان يدعى “سيد رابح ” واقترح عليه عرض لوحات فنية مع غرف النوم التي يبيعها ليرحب الخفاجي بتلك الفكرة التي أصبحت رائجة أكثر بعدها، وليؤسس أول محل تجاري لبيع اللوحات الفنية في الكرادة.

تشتهر منطقة “الكرادة داخل” بكثرة المحال التجارية والأسواق المختلفة والأزقة التي تحتوي على الكثير من المعالم والمباني التراثية بالإضافة الى الكنائس والجوامع. 

وكانت هذه المنطقة تحتوي على عدد كبير من وكالات الشركات العالمية سابقاً، وهي اليوم تعج بالحياة، تكثر فيها المطاعم والكافيهات ويرتادها الكثير من سكان بغداد. وعلى الرغم من كل ذلك إلا أن شارع الرسامين مازال زهيد الشهرة هناك.

في تسعينيات القرن الماضي وصل عدد المحلات الخاصة بالرسم وبيع اللوحات الفنية (الكاليري) الى 74 محل أو كاليري بعد أن بدأت من واحد فقط. فقد جاء رسامون من كل انحاء العراق وعملوا في هذا المكان وافتتحوا ورشهم الخاصة. 

وبحسب محمد الخفاجي، فإن شارع الرسامين خرّج الكثير من الرواد الذين اشتهروا باعمالهم فنية، ومعظمهم الآن خارج العراق بعد سقوط النظام السابق ودخول البلد في موجات من عدم الاستقرار الامني والاقتصادي.

الرجل الأربعيني “أحمد السوداني” هو الآخر يعمل هنا منذ عام 1997 ويمتلك كاليري صغير يضم عدداً من الأعمال الفنية. وبالرغم من تطوير عمله وتقديم خدمة الشحن للزبائن سواء في داخل او خارج العراق، إلا ان تجارته كذلك تعاني من الكساد اليوم بسبب الحروب والاضطرابات الامنية التي عاشتها البلاد وتراجع الاهتمام بدعم الفنون.

يقول “كنا في السابق لا نستطيع الكلام اثناء تواجدنا في العمل لكثرة الزبائن” ويضيف ان الاعتماد الرئيس كان على السواح والأجانب والبعثات الدولية والوفود، فهم يهتمون كثيراً بالحصول على اعمال فنية بأسعار معقولة.

ويعد شارع الرسامين أكبر الاسواق الفنية في الشرق الاوسط سابقاً، وكان يحتوى على عدد مهول من المحال الفنية في ذلك الوقت إلا أن عددها تناقص إلى ان وصلت الى مايقارب 15 محلاً اليوم. 

يقول احمد السوداني إن هذا الشارع يعتبر واجهة سياحية للبلد فهو يحتوي على أعمال فنية تحمل معالم البلد وتاريخه وأصالته، ودائما ما يشتريها السواح للاحتفاظ بذكرى عن بلد زاروه واعجبوا بتراثه.

يعتمد السوداني اليوم على العمل في تجهيز المطاعم والفنادق بلوحات فنية، فقد جهز عدد كبير منها في بغداد، وهو يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الديكور الخاص بكل مكان سواء كان منزلاً أو فندقاً. أحب السوداني عمله، ” كنت هاوٍ في هذه المهنة لكني عملت فيها إلى أن صرت اعتبر نفسي ناجحاً وحققت ما كنت أريده”، يقول ذلك مع ابتسامة عريضة يرسمها وجهه.

مجمع الرسامين لم يكن التجمع الاول في هذا المكان حيث ان المحلات كانت تتوزع على الشارع العام من الجانبين حتى سنة 2000 عندما تراجع عدد المحلات.

احد الأشخاص المهتمين والداعمين للفن والعمارة العراقيين ويدعى “محمد وجيه الدباغ” قرر إعادة تأهيل بيت مهجور وبناء عدد من المحال فيه وبذلك أصبح مجمع الرسامين، ومن ثم أصر الدباغ الذي يقيم في دبي الآن على تأجير المحال للرسامين وأصحاب الكاليريات فقط لأنه يريد الحفاظ على هوية المكان الفنية. 

محمد الخفاجي له ارتباط غريب مع شارع الرسامين فهو لا يستطيع الرسم في مكان آخر حتى ان كان بيته، رغم محاولاته، والغريب ايضاً ان محمد لايمتلك أي لوحة فنية في منزله، فهو يعرضها في محلاته في مجمع الرسامين، وله أجواء خاصة في الرسم ، إذ انه يحب ان يستمع الى الموسيقى التي تحتوي على حركة وفاعلية أثناء رسمه، بالإضافة إلى مجالسته لصديق ما، فمحمد “مزاجي ولايحب الملل” كما يصف نفسه.

الخيل ووجوه الفتيات البغداديات، أكثر الأشياء التي يحب الخفاجي رسمها، وهو يربط بين الحياة البغدادية والشخصيات التي يرسمها، فيرسم فتاة تسكب الشاي أو امرأة تجلس خلف ماكينة خياطة من نوع “فراشة” كما يسميها العراقيون بالاضافة الى انه يحب رسم الاهوار والشناشيل والموضوعات ذات صلة بتاريخ العراق وتراثه. 

“فندق الكرادة” الشهير في الحي ذاته ارتبط ارتباطاً كبيراً بشارع الرسامين، فقد أقام فيه عدد من الفنانين الذين كانوا يعملون في تلك الكاليريات فضلاً عن عدد من الفنانين العرب الذين جاءوا للعمل في الشارع آنذاك، منهم رسامين مصريين وسودانيين و من جنسيات العربية أخرى، أما اليوم لكنه يضم اليوم عدداً من طلاب الجامعات والعاملين.

تمتلك عائلة الخفاجي عددا كبيراً من الكاليريات في الشارع اليوم ، فكمال الخفاجي المهندس الذي أحب اللوحات الفنية وتعلق بشارع الرسامين أيضاً، يمتلك محلاً مليئاً بالأعمال الفنية وله سنين طوال من الذكريات هناك.

كما أنه يمتلك تجارباً مختلفة في التعامل مع السواح الأجانب فهو يعرف أذواقهم حسب جنسياتهم، فيقول “عند فترة تواجد الأمريكان في العراق كانوا يطلبون الكثير من اللوحات الشخصية فهم يحبون أن يرسموا انفسهم او اطفالهم وزوجاتهم ، على العكس من الأوروبيين الذين يحبون الأعمال الفنية ذات المواضيع التراثية”. 

رغم تراجع عمله، يتمنى كمال أن يتواجد الرسامون الشباب في ذلك المجمع ، فهو يريد ان يستمر العمل الفني هناك ويبقى زاخراً بالفن والاعمال الجميلة، وان تبقى روحية المكان على قيد الحياة، وهو ملتزم بالاستمرار بفتح محله يومياً دون اضاعة يوم واحد. 

بعد أربعة عقود لم يتبق من شارع الرسامين سوى ارثه الصغير والذي هو على هيئة مجمع في زاوية معزولة ضمن زقاق يجاور مجمع الماسة (دايموند مول)، تعتليه قطعة قديمة يكتب عليها “مجمع الرسامين للفنون التشكيلية” وبواجهته عدد من الاشجار وسور حديدي صدئ صغير، لا يلاحظه المارة ولا يعرفه الكثيرون، سوى سكان المنطقة القدماء الذين لم يتبق منهم إلا العدد القليل.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى