مديرة متحف الناصرية في رحلة عمرها خمسة آلاف عام
ذي قار- مرتضى الحدود
تقف إلى جانب خزانة زجاجية تضم ألواحاً طينية تعود أعمارها إلى حوالي خمسة آلاف سنة وهي تشرح لمجموعة من الشباب الزائرين أهمية وتاريخ هذه القطع وما تشير إليه الحروف السومرية الصغيرة المنقوشة عليها. هذا هو عمل وداد الاعرجي، الدليلة الآثارية ومديرة متحف الناصرية الحضاري.
منذ أشهر قليلة تدير الأعرجي البالغة من العمر 32 سنة متحف الناصرية الذي يحتوي على مئات القطع الأثرية النفيسة من حقب تاريخية مختلفة تبدأ من عصور ما قبل الكتابة مروراً بالحضارة السومرية والأكادية والبابلية والاشورية وصولاً إلى العصور الإسلامية.
بخطوات خفيفة تسير رفقة زائرين من طلبة كلية القانون، تشير بأصبعها نحو إحدى القطع الأثرية وهم ينصتون لحديثها، تشرح لهم كيف عثرت على هذه القطعة في إحدى عمليات التنقيب التي شاركت بها قبل نحو ست سنوات وكيف تعلمت من خلال أساتذتها كيفية فك رموز الكتابة المسمارية.
تخرجت الآثارية الشابة في جامعة بابل وحازت على شهادة البكالوريوس في علوم الآثار ثم عملت في مجال التنقيب بشكل طوعي مع بعثة إيطالية عام 2017 في تل زرغل بقضاء الدواية شمالي الناصرية أعقبتها عمليات تنقيب عديدة في مدينة أور الأثرية وفي موقع أريدو مع بعثات أخرى.
تذكر لنا وداد إحدى مهامها التنقيبية آنذاك وهي تنظيف قبر مكتشف داخل غرفة منزل في مدينة أور يحوي هيكلاً عظمياً لطفلة يقدر عمرها وقت وفاتها بـ 3 إلى 4 سنوات وقد عملت يومها على تنظيف العظام من الأتربة ونقلها من داخل القبر إلى صندوق محكم بالوضع الذي وجدته عليه لغرض دراسته وإجراء البحوث عليه.
محافظة ذي قار التي تقع جنوب العراق تضم أكثر من 1200 موقعاً أثرياً تعمل فيه بعثات تنقيبية أجنبية بشكل موسمي بلغ عددها عشرة بعثات من جنسيات مختلفة، والى جانبهم منقبون عراقيون يشاركون لغرض التدريب واكتساب الخبرة في أعمال الحفريات.
ويبلغ عدد العاملين في مجال التنقيبات في مفتشية آثار ذي قار قرابة الـ 100 منقب ومنقبة نسبة النساء بينهم 40%، إذ صار من الممكن أن تجد في صحراء الناصرية طالبات جامعيات أو خريجات يحملن المعاول وأدوات التننقيب وسط الغبار والأتربة ويحفرن الأرض في تلك المواقع الأثرية بحثاً عن تمثال أو تابوت حجري أو نقش سومري يساعد في فك رموز حضارة بلاد ما بين الرافدين.
انتقلت وداد من عملها في الحفر والتنقيب الذي يستغرق منها وقتاً ليس بالقصير لتتسلم في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي منصب مديرة متحف الناصرية وتأخذ دور المرشدة الآثارية في الوقت نفسه إلى جانب مرشدين آخرين يعملون في المتحف.
“واجبي هو الاهتمام بكافة التفاصيل المتعلقة بإدارة هذا المكان والحفاظ على النفائس الأثرية المتواجدة هنا وعرضها بأفضل شكل ممكن”، تقول الأعرجي، مضيفة أن جزءاً هاماً من عملها يتمثل في استقبال الوفود الأجنبية من الخبراء والمنقبين وعقد الاتفاقات مع متاحف أخرى وتعزيز حضور المتحف على المستوى الدولي.
تبدو الأعرجي سعيدة باختيارها مديرةً للمتحف كأول امرأة تتقلد هذا المنصب في ذي قار. ويعلق مدير مفتشية آثار ذي قار، شامل الرميض، على ذلك قائلاً إن اختيار الاعرجي جاء بعد ترشيح أربعة موظفين بينهم ثلاثة ذكور، “لكن وقع الاختيار عليها من قبل الهيئة العامة للآثار لما تمتلكه من خبرات متراكمة ومشاركات في أعمال التنقيب”.
ترى الأعرجي في عملها الإداري استكمالاً لعملها في المواقع الأثرية واستمراراً لرحلتها في التعلّم، تقول: “هنا أتعرف كل يوم على المزيد من القطع الأثرية التي لم أسمع عنها في السابق.. لدينا مقتنيات كثيرة تم جمعها من مختلف المدن العراقية ومهمتنا هي دراستها مع المتخصصين والأكاديميين والخبراء الأجانب وعرضها بالشكل اللائق وتعريف الزوار بها”.
رغم أهمية هذا المتحف والكنوز النادرة التي يحتويها لم يزره خلال الأشهر الستة الماضية سوى ما يقارب المائة زائر أجنبي معظمهم من الجنسيات الروسية والصينية والأوروبية، تتحدث معهم الأعرجي بمساعدة مترجمين. “هذا الرقم لا يحبطني بل يدفعني للعمل أكثر على الترويج للمتحف” تقول وداد، فحلمها “أن نتمكن من وضع المتحف على خريطة المتاحف العراقية والدولية كأحد المعالم السياحية والأثرية الهامة”.
ما أن تنهي الأعرجي كلامها حتى تغادرنا معتذرة، فيوم العمل طويل وما زال في أوله وفي انتظارها في قاعة الاستقبال وفد سياحي فرنسي يضم طلاباً جامعيين يدرسون الحضارة واللغات القديمة لبلاد الرافدين وبعده ستكون على موعد مع وفدٍ أوروبي آخر، “سأحاول أن أنقل لهم وجهاً من وجوه هذه الحضارة وأبحث معهم عن فرص للتعاون بين متحفنا والجامعة التي قدوموا منها”.
إنه يوم عمل عادي بالنسبة للأعرجي، لكن كل وفد يزور المكان بالنسبة للأعرجي يمثل فرصة للتعريف بالمتحف وللسفر في رحلة تاريخية وأثرية عمرها أكثر من خمسة آلاف عام.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)