كفاح امرأة من شارع الفراهيدي ..عمل متواصل وطموح مستمر

البصرة- نغم مكي
خلف صخب السيارات والمارّة في شارع الفراهيدي في منطقة العباسية في البصرة تضع أم حسين طاولتها المليئة بأنواع مختلفة من الأطعمة أشهرها “الدولمة” التي يتوافد الزبائن بكثرة لتذوق طعمها الشهي متلذذين بنكهاتها المختلفة، وإلى جانب الطاولة تصطف طاولات أخرى لبيع الكتب والاكسسورات وفي مقابلها أكشاك الكتب ومسرح الفراهيدي.
تقضي السيدة الأربعينية ما معدله ستة ساعات متواصلة من كل يوم جمعة في بيع ما صنعته في المنزل بحسب جدول أعدته باجتهاد وشغف بالتعاون مع أفراد أسرتها، منسقة في كل يوم طبخة محددة تنجزها قبل نهاية الأسبوع.
تقول أم حسين للمنصة “فكرت في عمل يسدد نفقات عائلتي واحتياجاتي الشخصية فبدأت سنة 2008 بصنع الطرشي والمعجنات والدونات وكل أنواع الحلويات”، وتتابع “في كل مرة كنت أسمع الثناء كان حماسي ورغبتي في تطوير العمل يزدادان، وانتقلت من مرحلة تلبية طلبات الجيران إلى البيع في البازارات وثم شارع الفراهيدي”.
تطفو على وجه أم حسين ابتسامة عندما يلقي عليها أحد الزبائن السلام قبل أن يهم بطلب وجبته، ثم تقول لنا مازحةً إن اسمها يتغير بتغير المكان الذي تتواجد فيه، ففي شارع الفراهيدي يناديها الجميع بلقب “أم حسين” بسبب عمل ابنها حسين معها، أما جيرانها والمقربون منها فينادونها بلقب “أم نرجس” نسبة لابنتها الكبرى.
يقف زبون آخر بالقرب من الطاولة، تلفت نظره القدور المغلقة فيدفعه الفضول لمعرفة ما في داخلها. تجيبه ام حسين بأنها دولمة بنكهتين مختلفتين وقد بدت عليه ملامح الرغبة في تذوقها. يطلب منها إعداد طبق صغير بسعر ألف دينار وقبل أن يدفع المبلغ تسكب أم حسين الدولمة في الطبق وتضيف إليه القليل من دبس الرمان. يهمّ بالأكل متلذذاً ويبتعد في الوقت نفسه لإفساح المجال لزبائن آخرين ليحصلوا على وجبتهم.
والدولمة أكلة يعشقها العراقيون تتكون من أرز متبل ببهارات عراقية يخلط بالخضار المفروم ناعماً، خصوصاً مع الثوم والبصل والبندورة والبقدونس، يضاف له اللحم المفروم ثم يحشى داخل ورق السلق أو ورق العنب، وفي قعر القدر يضاف الليمون والماء.
بسبب التنوع في المطبخ العراقي تختلف نكهة الدولمة من منطقة لأخرى ففي المناطق الشمالية يفضلوتها حامضة المذاق أما في مناطق الوسط فيكون طعمها لاذعاً ويميل لونها للأصفر وفي البصرة تكون حلوة الطعم.
قبل عملها هذا، كانت أم حسين تصنع منتجات سعف النخيل وتبيعها بسعر زهيد ثم ابتدأت مشروعها لصنع الدولمة والمعجنات، وبعد الثناء الذي تلقته تشجعت للعمل والبيع في شارع الفراهيدي، ساعدتها والدتها في صنع الأكلات وعمل أولادها معها في البيع والنقل، “عائلتي سند لي في كل خطواتي” تقول.
يبلغ طول شارع الفراهيدي 500 متر وهو رصيف مشتمل على أكشاك ومكتبات لبيع الكتب مستوحى تصميها من الشناشيل البصرية، وطاولات لأغراض البيع المتعددة من تحف وانتيكات وادوات خشبية مصنوعة باليد ولعب الاطفال.
ويتنوع الوافدين في هذا الشارع من كل الفئات والأعمار وتقام فيه مختلف الانشطة والفعاليات الثقافية والفنية فهو أشبه بشارع المتنبي في بغداد.
تحسّن الوضع الأمني في العراق لعب دوراً في ازدهار المدينة التي تعد العاصمة الاقتصادية للعراق والتي تحمل إرثاً تاريخياً وفنياً عريقاً مما عزز من سوق عمل النساء فيها، فصار من الشائع رؤية نساء يشغلن أعمالاً ويتواجدن في أماكن اعتاد الرجال على احتكارها طوال العقدين الماضيين.
شارع الفراهيدي واحد من تلك الأماكن التي تقبل عليها النساء والفتيات البصريات لبدء مشاريعهن الصغيرة والمبتكرة من صنع الاكسسوارات وتغليف الهدايا والرسم والخط العربي وبيع الكتب وصنع المأكولات الشعبية، ولأقدمية أم حسين يفضل رواد الشارع التبضع منها وتذوق دولمتها المتميزة بنكتها.
لكن التواجد في هذا الشارع وبيع الدولمة لزوّاره والعابرين فيه ليس الهدف الأخير لأم حسين، فطموحها الأكبر هو بناء مطبخ كبير في منزلها وشراء فرن يسمح بطهي كميات كبيرة من الطعام وتنور طيني لشيّ السمك وصنع الخبز، وأن تتمكن من توفير خدمة التوصيل للمنازل والمكاتب في البصرة.
“أريد أن أعمل مع أولادي في مشروع كبير يؤمن لنا الرزق الحلال ويسعد الزبائن” تقول أم حسين دون أن تكشف لنا عن اسم مشروعها القادم. قد يحمل اسم “مطبخ أم حسين” أو “أم نرجس”، لا يهم.. المهم أن يغدو حلمها حقيقة.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)