في ورشة “ملكة الخزف”

البصرة- نغم مكي   

في “كوت ثويني” إحدى مناطق قضاء ابو الخصيب أقصى جنوب البصرة تجلس سمية في غرفة صغيرة مقابل كتلةً من الطين تدور بواسطة عجلة لتشكل منها إناءً خزفياً.

ما أن تنتهي من تشكيل الإناء حتى يستقر على إحدى الرفوف في ورشة سمية أو “ملكة الخزف” كما يطلق عليها جيرانها وأصدقائها، إلى جانب عشرات من المصنوعات الخزفية التي تجعل المكان يبدو وكأنه متحف صغير.

لا تحمِل سميّة من طفولتها أي ذاكرة تتعلق بصنع الخزف، فهي لم تكتشف التعامل مع الطين الا بعد دخولها معهد الفنون الجميلة. تقول “اخترت التخصص في قسم الخزف في المرحلة الثالثة من دراستي في المعهد فالتعامل مع الطين يخلق لدي شعوراً بالراحة ويدفعني في كل مرة إلى صنع شيء مختلف ومبتكر”.

تخرجت سمية في المعهد ثم عملت أستاذةً فيه وأكملت دراستها الفنية في كلية الفنون الجميلة لتقيم  بعدها معرضين للخزف قوبلا بتشجيع وترحيب من قبل الزوار وفناني المدينة، “هذا الأمر دفعني للتفكير بتعليم هذا الفن لآخرين مهتمين به”.

تفتخر سمية بورشتها التي أخذت منها وقتاً طويلاً وجهداً في انشائها، فقد شيدتها في الجانب الأيسر من المنزل بالاسمنت والطابوق. 

عند الدخول الورشة ترى عجلة فخار أو  “دولاب خزف” ومجموعة من القطع الفخارية أسطوانية الشكل لم يكتمل تلوينها بعد، وفي الجزء المقابل مجسمات تجسد الشناشيل والنخيل وخزفية للملكة شبعاد، فيما تتناثر الألواح المسمارية وقطع متنوعة الأشكال والأحجام على طاولة تتوسط المكان. 

أما الفرن الحراري المخصص لشيّ الخزف فكان عند زيارتنا للمكان بارداً تماماً ويبدو أنه لم يعمل منذ مدة.

تشير سمية لأحد المجسمات وتقول “بسبب شغفي ومحبتي بهذه الحرفة خصصت مكاناً في الورشة لتعليمها ودمجت الفنون التراثية مع التقنيات الحديثة، والهدف من تعليم هذه الحرفة هو نقل وتعريف الجيل الجديد بالحرف التراثية والمحافظة عليه من الاندثار”. 

وحظيت مدينة البصرة بشهرة واسعة في الصناعات الخزفية منذ العصر العباسي الأول فالتنقيبات الأثرية التي أجريت في موقع المدينة القديمة كشفت عن أفران خزف عديدة ترجع الى العصر العباسي المبكر، لكن سميّة واحدة نساء قلائل في البصرة تتقن الحرفة في البصرة.

لا يخلو نجاح هذه السيدة في عملها من تحديات، “فالحصول على مادة الطين النقية والخالية من الشوائب والأملاح هو أصعب شيء لإكمال اي عمل فني إضافة إلى توافر للفرن الحراري غالي الثمن ومساحة مخصصة لإنجاز الأعمال الخزفية” تقول.

وهو على ما يبدو السبب الذي يجعل كثير من فناني الخزف يتوقفون عن مزاولة هذا الفن بعد فترة من افتتاح مشاريعهم، “فهو يحتاج مواد اولية ومساحة وفرن ذا طاقة كهربائية مستمرة ونحن نعلم ان الكهرباء غير متوفرة باستمرار” تشرح سمية.

تؤكد الفنانة البصرية أن مساندة أسرتها وزوجها لها كانت السبب في تجاوزها تلك العقبات واستمرارها في المهنة التي تعشقها، كما أن للطبيعة دور مؤثر على عملها وهو ما لمسته سمية أثناء العيش في ابو الخصيب إذ مثل المكان بالنسبة لها مصدر إلهامٍ وخلقٍ  لأفكارٍ جديدة. 

تقول سمية “الكثير من أعمالي كانت متأثرة ببيئة البصرة كشط العرب ونفط البصرة وجداريات الشناشيل، واطمح لترك بصمتي الخاصة فلا أقلد أي فنان بل أتأثر بالتراث وأحافظ عليه واواكب التطور في تقنيات الخزف والتزجيج”.   

وتمتد صناعة الفخاريات في العراق إلى أكثر من خمسة آلاف سنة وفي القرن التاسع الميلادي تمكن الخزّافون البصريون من إنتاج اللون الأبيض المتأصل اليوم في التصاميم الصينية مع اختراع طلاء أبيض وباستخدام اللون الأزرق الفضي في منتجاتهم، وهو ابتكار ينسب اليوم للحضارة الإسلامية إذ لم تسبقها إليه أي من الحضارات التي صنعت الخزف.

تدرك سمية أن شغفها ما هو إلا امتداد لهذا التاريخ العريق وتعبر عن حبها لعملها بالقول: “حتى آخر يوم في حياتي سأظل أعمل بالخزف وطموحي لن ينتهي هنا وسيمتد لتأسيس معهد خاص بي لتعليم الخزف” مشيرة إلى أن الدورات التي تقيمها في الورشة هي الخطوة الأولى لتحقيق هذا الهدف. 

 

أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى