أبو تحسين المجلّد: “الكتب حبي الأول ومهنة اجدادي”
فاطمة سمير- بغداد
في نهاية إحدى أزقة شارع المتنبي وسط سرداب تصل إليه بعد نزولك من سلم ذي ستة درجات يجلس رجل ستّيني بين أكوام الورق ممسكاً بيده الملطخة بالغراء كتاباً قديماً طبع في الخمسينيات من القرن الماضي، يتفحصه بعناية قبل أن يهمّ بتجليده.
أبو تحسين الملقب بـ “المجلّد” من أواخر العاملين في مهنة تجليد الكتب التي كانت منتشرة في بغداد، وهي مهنة قديمة تقتضي ترميم الكتب ووضع أغلفة جديدة لها وبثّ الحياة فيها من جديد.
بدأ أبو تحسين العمل في تجليد الكتب عندما كان في الثانية عشرة من عمره وكان هناك الكثير من المجلدين آنذاك أما اليوم فصاروا يعدون على أصابع اليد الواحدة على حد تعبيره. يقول “في الزمن الماضي كان الأخلاص يسود المهنة أما في الوقت الحالي فيأتي اليّ الناس وهم يشكون تلف الكتاب بعد تصليحه فأقوم بترميمه من جديد”.
في سبعينيات القرن الماضي عمل أبو تحسين موظفاً في مطبعة الأوقاف المركزية الكائنة في السبع أبكار فكان يذهب صباحا إلى المطبعة ثم يعود مساءً إلى محله الصغير، وبعدها أحيل للتقاعد وتفرغ تماما لتجليد الكتب.
ويفخر أبو تحسين بأن هذه المهنة إرث عائلي تتناقله العائلة، فكما تعلم هو من والده وإخوته يعلم اليوم جيلاً جديداً من عائلته.
أحمد ذو الثلاثين عاماً ابن أخ ابو تحسين، كان يقف في الجهة الثانية من السرداب منهمكاً بتصليح كتاب قديم والعرق يتصبب من جبهته. يقول إن العم ابو تحسين يطبق “قوانين صارمة” على العاملين معه ويقول لهم: “ضعوا أرواحكم في الكتاب حتى يظهر بالشكل المناسب” وأن “هذه الكتب هي محط اهتمام صاحبها فلابد من الحفاظ عليها من التلف”.
كان لدى ابو تحسين في السابق محلان لتجليد الكتب في العاصمة بغداد، لكن بسبب ظروف الحرب والحصار التي مرت بها البلاد وتراجع الحالة المعيشية استقر أخيراً في هذا السرداب الصغير.
يقول المجلّد أن “تصميم السرداب القديم وموقعه في أشهر شارع في العراق مختص يبيع الكتب المستعملة والقديمة ساعد على جذب المزيد من الزبائن لمحلنا”.
ثم يشرح لنا العم ابو تحسين آلية العمل التي تبدأ بترتيب أوراق الكتاب وتسلسله ثم تخييطه بإستخدام خيوط خاصة، بعدها وضع الورقة التي تسمى “ورقة الوصل” أو “الحاضنة” وهي التي تربط الغلاف بالأوراق الأولى من الكتاب، وتركيب الحافة المسماة “كعب الكتاب” بآلة حديدية تعمل بتحريك عجلتها يدوياً، وهذه العملية تسمى “تعريش الكتاب”.
أما نوعية الكتب التي يعمل على إصلاحها فهي المصاحف وسجلات النفوس والقيد العام في المدارس وقيود الولادات والوفيات والمخطوطات والكتب القديمة، وكذلك أيضاً الرسائل والأطروحات الجامعية.
على أعتاب السرداب يقف زبون بعمر العشرينات منتظرا أن يسلمه ابو تحسين رسالة الماجستير التي جلبها له قبل اسبوع لتجليدها. يخبرنا الشاب انه أتى من منطقة بغداد الجديدة إلى ابو تحسين لأنه يثق بعمله، “لست أنا فقط من يجلد عنده فأخوتي وزملائي زبائن دائمين لديه”.
وتختلف أسعار التجليد من كتاب لآخر بحسب قدمه وحجمه وحالة الورق أما المصاحف فغالباً ما يقوم بتجليدها مجاناً، ويضيف ابو تحسين: “انها لسعادة كبيرة أن اعمل على تجليد كتاب عزيز على مالكه، خصوصا المصاحف والكتب التي ورثها الزبائن عن آبائهم”.
أما سر تميزه في مهنته فيعزوه إلى قصّة حدثت معه في طفولته يرويها قائلاً: “عندما كنت صغيرا أساعد عمي في ورشته خربت أحد الكتب بدلاً من أن أصلحه.. يومها عاقبني عمي بعدم العمل لمدة شهر كامل.. لقد كان شديد الحرص على الكتاب ومنه تعلمت مبكّرأ أهمية إتقان العمل”.
ويختم أبو حسين كلامه بالقول ان هذه المهنة “هي حبي الأول لن أتخلى عنه ما حييت، فهي مهنة أجدادي وسيرثها أبنائي من بعدي”.