سكان دربنديخان الكردية.. 16 عاماً من استخدام المياه الملوثة
صباح كل يوم، وقبل ذهابه لأداء مهام عمله مدرساً لمادة الفيزياء للمرحلة المتوسطة، يضع فرهاد عبد الله (48 سنة) عدة عبوات بلاستيكية كبيرة فارغة في صندوق سيارته، ويقود لمسافة كيلومترين إلى حيثُ موقع بئر إرتوازية بأطراف بلدته دربنديخان بمحافظة السليمانية ليملأها بالمياه ويعود بها إلى أسرته.
يضع العبوة الأولى تحت صنبور مياه خزان أبيض كبير موجود بجوار البئر، يقول بأن مايفعله طقسُ إعتاد عليه منذ سنوات، يرفع أصابع يديه:”مرت أربع سنوات، وأنا أجلب المياه من هذه البئر التي حفرها مُحسن على نفقته الخاصة، قبلها كُنت أجلبها من بئر إرتوازية في مكانٍ أبعد، ولفترة جلبت المياه من ينبوعٍ في شمال القضاء”.
ينظر فرهاد إلى أصابع يده المفرودة أمامه، ويقول:”منذ 2008 والمياه التي تصل منازلنا عبر شبكة مياه الإسالة ملوثة وغير صالحة تماما للإستهلاك البشري، ومن حينها وأنا والكثير من جيراني وأقربائي ومعارفي في البلدة والقضاء بشكل عام نحصل على المياه من الآبار والينابيع، ومن لديه المقدرة المالية يشترون المياه المعدنية المعبأة من السوق”.
يُحكِمُ غلق الصنبور بعد تأكده من إمتلاء العبوة التي تتسع لعشرين لتراً، ويتابع بشيء من الإستسلام:”هي ليست آمنة تماماً لاستخدامها للشرب، لكنها أفضل بكثير من المياه التي تصلنا الى البيت من محطة التنقية”.
يمسك بمقبض العبوة ويأخذها بتثاقلٍ إلى صندوق سيارته، يتوقف في منتصف الطريق وهو يضعها على الأرض بحذر، ويقول بعد رفعه ذراعيه إلى الأعلى:”منذ 2008 شاركتٌ في الكثير من التظاهرات والإعتصامات بمدينة دربنديخان ، احتجاجاً على تلوث المياه، ولإيجاد حل لمشكلتنا المزمنة”.
يُنزل يديه ويتساءل بصوت خافت وهو يهز رأسه:”إحزري ماذا حدث؟”، لاينتظر إجابة، يرفع العبوة من جديد ويمضي إلى السيارة بينما صوته يرتفع مجيباً:” لاشيء طبعاً، كل مرة يعطوننا وعودا، والنتيجة صفر”.
طوال عقود كان سكان قضاء دربنديخان الذي يفوق عددهم الـ 100 ألف نسمة، يعتمدون على مياه بحيرة تحمل ذات أسم القضاء وتقع على جهتها الشرقية، يغذيها نهران، هما سيروان المنحدر من إيران، ونهر داخلي أسمه تانجرو. لكن الوضع تغير في السنوات الأخيرة مع شح مياه البحيرة أثر الجفاف الذي تواجهه المنطقة، ونتيجة خفض ايران لكميات المياه المتدفقة عبر نهر سيروان واحيانا قطعها.
يقول قائممقام القضاء سليمان محمد، ان التغييرات المناخية وشحة مياه الأمطار في المواسم الأخيرة، أديا إلى إنخفاض كبير في منسوب مياه البحيرة وزيادة تركيز الملوثات فيها وبالتالي “لم تعد محطة المعالجة قادرة على تنقيتها وإيصالها صالحة للشرب الى منازل المواطنين وأماكن عملهم”.
ويشير إلى أن ذات الأمر حدث مع النهرين المغذيين للبحيرة:”إذ أصبحت مياه سيروان شحيحة وتصل البحيرة بعد اختلاطها بمياه تانجرو الملوثة بسبب الفعاليات البشرية ومصانع السليمانية التي تلقي بمخلفاتها في النهر دون أي معالجة بيئية، فتفاقم الوضع سوءاً في البحيرة”.
ويلفت قائممقام إلى أن 20% من سكان القضاء يعتمدون على مياه الإسالة التي تصلهم للإستهلاك اليومي، هم مضطرون لاستخدام مياه ملوثة مع علمهم بذلك لعدم إمتلاكهم خيارات أخرى:”ليس بوسع الجميع نقل المياه من الآبار إلى منازلهم أو شراء المياه من السوق”.
ولا يعول متخصصون في مجال المياه قابلتهم معدة التحقيق، على حل المشكلة بعد موجة مياه الأمطار الغزيرة والاستثنائية التي هطلت في الموسم الحالي والتي بفضلها امتلأت بحيرة سد دربنديخان ، وبلغت وفقاً لتقديرات رسمية ما يزيد عن أربع مليار مكعب في آذار/مارس 2024، إذ يتوقعون تراجعها سريعا وكما حدث في المواسم ما بعد 2019 نتيجة زيادة الاطلاقات المائية من السد وضعف الكميات القادمة من نهر سيروان.
كما يجمعون على أن تراكيز الملوثات في السد حتى مع الكميات الكبيرة من المياه المخزنة مازالت عالية فضلاً عن العكورة، مشيرين إلى أن نهر تانجرو الذي يصب في البحيرة يظل ملوثا بالكامل، بسبب النفايات التي تلقى على ضفافه وملوثات زيوت وشحوم الورش الصناعية ومخلفات مصافي الوقود البدائية وملوثات المصانع والبلدية، فضلاً عن مياه الصرف الصحي.
مشكلة قديمة
إثر تزايد الضغط الشعبي على الحكومة المحلية في السليمانية بعد العام 2008 شكلت وزارة الداخلية في اقليم كردستان لجنةً لحل مشكلة تلوث المياه في دربنديخان من خلال محاولة منع مصادر التلوث، لكنها “عجزت عن فعل شيء، وتكرر الأمر مع لجان آخرى شكلت بعدها، ليبقى التلوث قائماً بكل ما يحمله من تهديد لحياة سكان المدينة، وفق الناشط البيئي هاوكار قادر.
كل ما استطاعت السلطات فعله، هو التحذير من استخدام تلك المياه. فقد طلبت دائرة الشؤون الصحية التابعة لوزارة الصحة بكردستان، في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2008 من دائرة صحة كًرميان، تحذير المواطنين في دربنديخان من استخدام مياه الإسالة للشرب بسبب تلوثها.
الكتب التي تم تناقلها بين جهات رسمية معنية في الفترة نفسها، طلبت توجيه النصح للسكان باللجوء الى مصادر مياه بديلة كالآبار الارتوازية ومياه الينابيع او تسخين مياه الإسالة الى درجة الغليان، لحين حل مشكلة التلوث، مشيرة الى سعي الحكومة لتنفيذ مشروع لتأمين المياه النظيفة لسكان المنطقة.
استمرت المشكلة طوال أشهر العام اللاحق، بحسب ما يكشفه كتاب رسمي أُرسل من دائرة الشؤون الصحية إلى دائرة صحة السليمانية في آب/أغسطس 2009، أعلمتها فيه بالنتائج “غير الجيدة” للفحوص (الميكروبايولوجية) التي أجريت في شهري حزيران وتموز على المياه التي يفترض انها خضعت للمعالجة من بحيرة دربنديخان بواسطة محطة التنقية القديمة العاملة.
واكد الكتاب أن المياه غير صالحة للشرب، وطلبت فرض مزيد من الرقابة، واجراء فحوص يومية، وتشكيل لجان مشتركة مع البلديات للقيام بزيارات لأماكن اضافة الكلور للمياه والاطلاع عن قرب على عملها وتثبيت أي تقصير حاصل.
فشل عمليات التنقية في انتاج مياه صالحة للاستهلاك، كشف الحاجة الماسة لمشروع جديد بتقنيات حديثة، وأعلنت حكومة اقليم كردستان في تشرين الأول/اكتوبر 2009 عزمها على إنشاء محطة متطورة لتنقية المياه تنفذها شركة Ukfilterالبريطانية بكلفة ثلاثة ملايين دولار، تأخذ مياهها من بحيرة دربنديخان .
وكان من المقرر أن تنجز الشركة عملها خلال ثمانية أشهر فقط، ليحصل السكان على مياه نقية منتصف العام 2010. لكن ذلك لم يتحقق أبداً بسبب تلكؤ المشروع.
ووفقاً لأحد موظفي المشروع، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، وقعت خلافات بين الجهات الحكومية المعنية والشركة المنفذة، ما حال دون اكمال المشروع، مع تفاقم المشكلة بسبب تراجع كميات المياه وزيادة نسب الملوثات فيها.
ويلفت الموظف، إلى أن مديرية مياه السليمانية كشفت في العام 2010 عن نتائج جديدة لتحليلاتها للمياه مغايرة لسابقاتها، حيث أظهرت بأن المياه الواصلة للمواطنين عبر شبكة الإسالة صالحة للشرب، ويقول عن ذلك “ربما حاولوا بتلك الكذبة امتصاص غضب المواطنين”.
وينبه الموظف إلى أن مكتب الإستشارات العلمية بجامعة السليمانية كان له رأي مخالف لنتائج تحليلات مديرية الماء في ذات الفترة، إذ أرسل إلى المحافظة نتائج تحليل أجراه عاملون في مكتب الاستشارات على تلك المياه، أظهرت احتوائها على “النحاس والكروم والكادميوم” مصدرها مخلفات المعامل الصناعية.
وذكر مكتب الاستشارات العلمية أنه اضافة الى عدم صلاحية تلك المياه للاستهلاك البشري، فإنها تتسبب بموت بعض الأحياء المائية، في اشارة الى حصول تغير خطر في نوعية مياه سد دربنديخان .
واقترح المكتب على ادارة محافظة السليمانية، انشاء محطة تنقية مياه مشابهة لتلك الموجودة في المحافظات الجنوبية “يمكن إنشاؤها وتشغيلها خلال ستة أشهر فقط، وتمنع تسرب الملوثات من مياه نهري تانجارو وسيروان الى بحيرة دربنديخان ” وفقا للموظف.
ويتابع:”مع تلك النتائج وتحت ضغط الاحتجاجات الشعبية والشكاوى المتكررة، اضطرت ادارة محافظة السليمانية إلى تشكيل لجنة لتسريع إنجاز محطة التنقية الموعودة وكان ذلك سنة 2010، لكن على الأرض لم يتحقق شيء بسبب قلة التمويل”.
“استمرت المشكلة، قبل ان يحصل تدخل مباشر من وزارة الموارد المائية في أربيل، ويحوَّل المشروع الى شركة اوهيتان التركية”. وهي شركة تساهم بإنجاز العديد من المشاريع في إقليم كردستان، ومعه أطلق المسؤولون وعودا بقرب انجاز المشروع، وانقاذ عشرات آلاف السكان من تهديد الإصابة بجملة أمراض خطرة ومحنة البحث اليومي عن مياه صالحة للاستهلاك.
في أكتوبر 2013 وتحت ضغط الإحتجاجات المتجددة قرر المحافظ توفير مياه صالحة للشرب للمواطنين في دربنديخان بواسطة 30 صهريجاً ينقلونها إلى القضاء يومياً لحين إكمال مشروع محطة التنقية الجديدة، لكن ذلك لم يستمر طويلاً. بحسب الناشط هاوكار قادر.
يضيف:”في بداية العام 2014 ازدادت نشاطات المجموعات الارهابية قبل ان يظهر تنظيم داعش ويسيطر على نينوى وصلاح الدين وأجزاء من كركوك، وينشغل الجميع بالمخاطر التي يشكلها على الاقليم، فتوقف كل شيء!”.
ويؤكد هاوكار بأن الشركة التركية، كانت مستمرة في تلك الأثناء بتنفيذ المشروع الا أن الاستعدادات للحرب ضد داعش وتزايد المخاطر حالت دون إتمام عملها قبل ان تبلغ نسبة الإنجاز 50%.
ويستدرك وهو يضرب كفيه ببعضهما:”والآن بعد مرور عشر سنوات، إندثر ما كان قد تم إنشاؤه من ذلك المشروع، ويجب بدء كل شيء من جديد ومن الصفر ربما”.
لم تكن سيطرة تنظيم داعش على مناطق في جنوب إقليم كردستان بما فيه أجزاء من كركوك وديالى، وحرب تحريرها منه السببان الوحيدان لتعطيل تنفيذ مشروع محطة تنقية المياه في دربنديخان ، بل أيضاً الأزمة الاقتصادية التي واجهها الإقليم بعد العام 2014 اثر تراجع اسعار النفط في السوق العالمية وانقطاع حصة الاقليم من الموازنة الاتحادية اثر الخلافات على مبيعات النفط المستقلة من الحقول الخاضعة لسيطرة حكومة كردستان.
لذلك لم يحصل المشاركون في الاحتجاجات المتكررة على تلوث مياه الإسالة في مدينة دربنديخان سوى على الوعود، حتى مع تفاقم المشكلة في الأعوام الأخيرة نتيجة التغير المناخي وحمله من جفاف، وتناقص الكميات الواردة من المياه عبر نهر سيروان المنحدر من ايران الى حد توقفها شبه الكامل في بعض الأيام، وزيادة نسب التلوث في نهر تانجرو.
آخر تلك الوعود أطلقت في آذار/ مارس 2022، إذ أعلنت الحكومة المحلية في السليمانية إحالة مشروع تنقية مياه دربنديخان ، الى شركة جديدة، هي الثالثة خلال 12 سنة، وأن مراقبة العمل ستتم هذه المرة من قبل نائب رئيس حكومة الإقليم قوباد طالباني مباشرةً، الذي أكد حرصه على تمويل المشروع بعشرة ملايين دولار “تُستحصل من بيع عقارات مملوكة للدولة” وفقاً لهاوكار قادر، الذي يواصل:”ولم ينفذ الوعد أبداً”.
بدائل خطرة وأمراض
16 عاماً من مشكلة تلوث مياه بحيرة دربنديخان ، ووصولها الى ساكني المدينة دون أن تمر بعملية تنقية فعالة، أجبر الأهالي على اختيار مياه أقل تلوثاً يحصلون عليها من الينابيع والآبار الارتوازية.
لكن هذه البدائل لاتخلو هي الأخرى من مخاطر على الصحة، فهي لا تخضع الى اي معالجة قبل استخدامها، وتتسبب بمشاكل صحية وأمراض عديدة منها التي تصيب الكلى نتيجة عدم تصفيتها من الشوائب، وفقاً لمتخصصين.
عظيمة صديق (30 سنة) ربة بيت من مركز قضاء دربنديخان ، تقول بأنها معتادة منذ صغرها على استخدام مياه البئر التي حفرها والدها في باحة المنزل، وبعد زواجها وسكنها بمنزل مجاور لمنزل أسرتها، استمرت في الحصول على مياه البئر ذاتها.
تقول مبتسمة:”مر على زواجي عشر سنوات، كل يوم أذهب لجلب المياه من بئر والدي والحمد لله أنه على بعد أمتار قليلة فقط، مياه الإسالة غير نظيفة ولا تصلح حتى لغسل الثياب”.
تسكن عظيمة، في منزل يجاور منزل أبيها في منطقة غالبية سكانها فقراء أو متوسطو الدخل، لا يستطيعون شراء مياه الشرب التي تبلغ أسعارها في اقليم كردستان أضعاف أسعارها في باقي مناطق العراق، إذ يبلغ سعر عبوة المياه المعدنية فئة 20 لتراً 1750 ديناراً (أكثر من 1.3 دولار ) في حين يبلغ سعرها في محافظات جنوبية 500 دينار (38 سنتاً).
تستخدم عظيمة مياه بئر والدها في الشرب والطبخ هي وزوجها وأطفالهما الأربع، لكن ذلك لم يمر دون اصابتهم بمشاكل صحية.
تشير عظيمة إلى البيوت المجاورة:”كلنا نلجأ لمياه الآبار غير المعقمة واحياناً حتى مياه الإسالة والنتيجة اصابتنا بأمراض بعضها خطر”.
تصمت قليلا قبل ان تتابع بنبرة حزن:”مياه البئر والإسالة تسببت بمرض ابنتي البالغة تسع سنوات، فهي تعاني من وجود حصى في كليتيها، ولا يمر شهر دون أن تصاب بنوبة آلام في جنبيها، الطبيب قال لنا أن المياه الملوثة هي السبب”.
العديد من جيران عظيمة، أشاروا كذلك إلى وجود مرضى من أفراد أسرهم جراء المياه التي يتناولونها منذ سنوات دون معالجة. وتنتشر بمعدلات عالية الأمراض المتعلقة بتلوث المياه في منطقة دربنديخان .
الطبيب المختص بالطب الباطني هيوا محمد، يؤكد بأن استخدام المياه الملوثة في الشرب والطبخ تؤدي الى الاصابة بأمراض عدة بعضها صعبة العلاج وبعضها يؤدي الى الوفاة.
ويتابع “الكوليرا التي تظهر بين الحين والآخر هنا وفي مناطق أخرى بالسليمانية سببها المياه الملوثة، اضافة الى التيفوئيد والتهاب الكبد واضطرابات الكلى والقلب والاوعية الدموية هي حالات شائعة في المناطق ذات المياه الملوثة وحتى التي تعتمد على الآبار الارتوازية كمصدر لمياه الشرب”.
ويذكر أن أنواعاً عدة من السرطانات يمكن أن يسببها تناول المياه الملوثة لفترات طويلة مثل “سرطان المعدة والكبد والقولون والمريء، وجميعها مميتة وهي الأكثر شيوعاً في دربنديخان “.
ويرى الطبيب هيوا بأن الطرق التقليدية في التنقية كغلي المياه قبل شربها قد يخلصها من الملوثات البيولوجية مثل البكتيريا والمكروبات “لكن الملوثات الصلبة كالمواد الكيمياوية والاتربة تحتاج الى طرق تنقية أكثر تطوراً وفعالية”.
وفقاً لإستبيان أجرته “حملة الدفاع عن حق الحصول على مياه نظيفة في دربنديخان ” في العام 2010 وشمل 119 عائلة، فإن 40% من سكان المنطقة كانوا يستخدمون مياه الإسالة في كل شيء. وكان 57% منهم يعتمدون على الآبار الارتوازية و22% على الينابيع و10% على ماء الإسالة في التزود بمياه الشرب بالرغم من أن 97% منهم كانوا غير واثقين من كون المياه التي تصل منازلهم نظيفة.
ويرى ناشطون مدنيون، أنه بعد 14 سنة من ذلك الاستبيان، فان نسبة المعتمدين على مياه الإسالة في الشرب قد تضاعفت، بسبب تراجع المياه الجوفية في الآبار والينابيع جراء تغير المناخ بما في ذلك التغيرات التي طرأت على الأنماط المطرية، اضافةً الى أن تردي الوضع الاقتصادي للمواطنين في الإقليم عموما خلال السنوات الأخيرة بسبب أزمات الرواتب المتعاقبة، حال دون مقدرة الكثيرين على شراء المياه المعبأة.
خالد حسين (40 سنة) يعمل سائقاً لسيارة أجرة، تجبره ظروفه الاقتصادية على ان يشرب الماء مع عائلته من المياه الواصلة للمنزل عبر شبكة الإسالة. يعزو ذلك الى عدم وجود بئر في بيته أو بالقرب منه، والآبار والينابيع العامة بعيدة جداً عن منزله، وقد لا يتوفر فيها الماء دائماً.
ويتساءل:”ماذا نفعل، المياه في الأسواق أسعارها مرتفعة والوضع الاقتصادي صعب، ليس أمامنا سوى مياه الصنبور مع أننا نعلم بأنها ملوثة وتهدد صحتنا”.
مواد مسرطنة
يمكن للمارين ببحيرة دربنديخان التقاط رائحة نفاذة، وذات الحال ينطبق على بحيرة ديوانة المخصصة لسقي الأراضي الزراعية في قضاء دربنديخان ، إذ أن هناك مصبات لمياه الصرف الصحي.
ووفقاً لدراستين أجريتا في جامعة السليمانية سنة 2022 فإن مياه بحيرة سد دربنديخان تحتوي على مواد مسرطنة، والمستويات الحامضية في مياه السد عالية، فضلاً عن ان نسبة العكورة أعلى بكثير من المستويات المقررة من قبل منظمة الصحة العالمية. أما مستويات الالمنيوم فتجعل المياه غير صالحة للشرب او سقي المزروعات.
وترجع الدراستان سبب التلوث الى مخلفات المناطق الصناعية القريبة من القضاء، وخَلُصتا الى أن المياه في سد دربنديخان صالحة لري أنواع محددة من النبانات فقط، وكذلك لأغراض صناعية محددة؛ بينما لا تصلح للشرب بدون عملية معالجة عالية.
وهذا يؤشر إلى أن “هنالك حاجة إلى تنفيذ خطة استراتيجية ذات إدارة طويلة المدى من أجل الحفاظ على جودة مياه سد دربنديخان باعتباره أحد أهم موارد المياه المحلية لسكان المنطقة”.
يؤكد الخبير في استراتيجيات المياه حمزة رمضان، ما توصلت إليه الدراستان، لافتاً إلى أن مشاريع تنقية المياه ذات التصاميم القديمة وحتى بعض المفترض تنفيذها لم تعد تتناسب مع حجم التلوث المائي في السدود والبحيرات بالعراق إثر شحة المياه في السنوات الاخيرة.
ويقول: “التنقية الكلاسيكية لا تغير نوعية المياه بالشكل المطلوب، ويجب التوجه نحو مشاريع التنقية بالسيراميك أو طرق حديثة أكثر تمنع تسرب المعادن الثقيلة المسرطنة كالكروم والكادميوم الى مياه المنازل”.
ودعا الى ضرورة قيام الجهات المعنية ببث الوعي لدى المواطنين، وحثهم على عدم استخدام المياه الواصلة اليهم “الإسالة” ومياه الآبار بنحو مباشر دون معالجة بالفلاتر أو الطرق التقليدية كالغلي أو استخدام ما يعرف بالزير أو (الحِب) وهو وعاء فخاري يوضع فيه المياه فيرشح منه صالحاً للشرب.
أحمد عمر (38 سنة) من قضاء دربنديخان ، ويعمل موظفاً في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، يقول بأنه يشتري المياه المعدنية المعبأة خوفاً على صحة أطفاله الثلاثة من “أمراض لا يمكن علاجها”.
ويشير إلى أن عائلته تستخدم تلك المياه للشرب والطبخ، وأفرادها الخمس، يستهلكون أربعة عبوات فئة 20 لتراً أسبوعياً كمعدل:”يكلفني ذلك نحو 30 الف ديناراً شهرياً، وأحياناً أكثر من ذلك”.
ولا يبدو اللجوء الى منظومات تنقية المياه المنزلية (فلاتر) حلاً مجدياً للتخلص من مشكلة تلوث المياه بالنسبة لأحمد عمر، “لا نعرف كفاءتها في معالجة كل الملوثات”، كما ان هناك مشكلة أخرى تتعلق بكثرة انقطاع مياه الإسالة “هي غير متوفرة في كل الأوقات وتزداد الشحة خلال الصيف”.
كما أن منظومات التنقية توفر كميات مياه محدودة للشرب والطبخ وليس لكل الاستخدامات، وهي بعيدة عن متناول شريحة كبيرة من المواطنين في دربنديخان بسبب أسعارها المرتفعة فهي تتراوح بين 100 و500 دولارا، وفقاً لـ هلشو أمين، تاجر منظومة تنقية المياه المنزلية.
ويؤكد أمين أن أصحاب الدخل المحدود لا يستطيعون دفع مثل هذه المبالغ “لذلك فإستخدامها غير شائع في دربنديخان “. أمام معضلة المياه الملوثة المستمرة منذ 16 عاما، ومع عدم قدرة غالبية السكان على شراء المياه المعبأة أو منظومات فلاتر التصفية محدودة التأثير في منطقة تعاني من معدلات فقر وبطالة مرتفعة، ليس أمام عشرات آلاف العوائل غير استخدام المتاح أمامهم من مياه الإسالة الملوثة أو مياه الآبار غير المعالجة بكل ما تحمله من مخاطر صحية، في انتظار أن يتحقق “حلم” انجاز محطة تنقية متطورة. الحلم الذي هو أبسط حقوقهم الانسانية.
انجز التحقيق تحت اشراف شبكة “نيريج” ضمن مشروع الصحافة البيئية الذي تديره منظمة أنترنيوز.