متحف دار السلام .. آلة زمنية تعيدك لثلاث مراحل من تاريخ العراق
بغداد- مصطفى جمال مراد
من بين المعالم الثقافية في العاصمة بغداد يتربع متحف دار السلام في شارع المتنبي كآلة زمن تعيدك إلى ثلاث حقب متتابعة من تاريخ العراق.
المؤرشف محمد سيد علوان، الرجل الخمسيني الذي أنشأ أول متحف بجهود ذاتية في العراق، يرى أن أهمية المتحف تكمن في كونه يمثل نموذجًا مصغرًا لدولة العراق إذ يضم بين جنباته المتنوعة شتى جوانب الحياة العراقية.
كان علوان يقوم بجمع المقتنيات المعروضة حاليًا أمام العامة في المتحف بمجهود فردي. بدأت شرارة هذا الشغف عندما كان طالبًا في الابتدائية. يقول: “عملية جمع المقتنيات هي فن وهواية بحد ذاتها مثل بقية الفنون كالرسم، والنحت، والتخريم، والتحنيط، والطرق على المعادن. كل ما يحمل لمسة فنية قديمة هو فن عظيم، ولهذا يستمر الفن مئات السنين.”
كان بيت المؤرشف علوان مصنوعًا على طراز بيوت الشناشيل، وهي البيوت التراثية التي تتميز بوجود شرفات خشبية بارزة مزخرفة تُزيّن واجهتها. كما ان البيت الواقع في قضاء المحمودية يحتوي على 500 موقع أثري، مما عزز في ذهن المؤرشف علوان حب الأشياء الأثرية والمحافظة عليها، فبدأ بجمع المقتنيات والأراشيف القديمة من سجلات ومراسلات ووثائق ومناهج دراسية وكل المقتنيات التابعة للأزمنة الثلاثة المتتابعة: العثمانية والملكية والجمهورية.
لم تكن رحلة جمع المقتنيات سهلة ولم تتم خلال فترة زمنية قصيرة. يعود المؤرشف علوان بالذاكرة إلى السابعة من عمره ويقول: “كنت أرتاد شارع النهر في بغداد بشكل دائم وأقوم بشراء بعض المقتنيات. كان البائعون يميلون أحيانًا لعدم البيع لي لصغر سني، وكانوا يعرضون علي مبالغ مالية كبيرة ثمناً للسلعة لجعلي لا أشتري، لكنني كنت أشتريها مهما كلف الأمر.”
ويتابع بنبرة من يشعر بالفخر: “أول شيء احتفظت به كان سيف والدي السيد علوان وهو من مواليد 1885 وشارك به في ثورة العشرين، والسيف الآن ضمن المعروضات في المتحف”.
في المتحف يمكن الزائر رؤية الخوذ والملابس بشتى أنواعها التابعة للأزمنة الثلاثة، مثل ملابس رياضة “الزورخانة” وهو المكان الذي يتدرب فيه المصارعون على رياضة المصارعة الشعبية. ويوجد أيضًا أقدم “كاروك” (سرير أطفال) يعود للزمن العثماني، ودراجة نقل كانت تستخدم في المزارع، وعجلة الكاري التي تعتبر وسيلة نقل للخيول وهي الوحيدة في العراق.
بالإضافة إلى هذا يعثر الزائر على العملات النقدية والشارات العسكرية والقلادات التي تنتمي للمراحل الثلاث، وأدوات المزارعين مثل المنجل و”المكوار”، والعصى الخشبية ذات المقدمة الكبيرة لضرب الحيوانات المفترسة والدفاع عن النفس، و”المهر” الذي هو عبارة عن أختام لشخصيات بارزة في مختلف الأزمنة، والميجن والخيلون التي يستخدمها سكان المنطقة الغربية من العراق مثل الأنبار لوضع التمر مع السمسم وطحنه يدويًا، ونظارة الطيارين في فترة الحرب العالمية الأولى، وأسلحة قديمة.
يعرض المؤرشف علوان مقتنياته التراثية اليوم في متحف “دار السلام” في المركز الثقافي البغدادي بشارع المتنبي منذ عام 2016، في الطابق الثاني من المركز الثقافي، واضعًا أغلب مقتنياته بداخلها.
يقول المؤرشف للمنصة: “لدي العديد من المقتنيات في منزل والدي وكذلك منزلي الخاص ولا أقدر على عرضها لعدم اتساع القاعة في المركز الثقافي.”
تولدت فكرة عرض تلك المقتنيات في المركز الثقافي البغدادي عندما قام طالب العيسى، مدير المركز الثقافي البغدادي، بزيارة إلى متحف محمد سيد علوان الشخصي في المحمودية، وعرض عليه أن يكون له قاعة في مكتبة ابن خلدون أو في المركز الثقافي البغدادي. كان اختياره المركز الثقافي البغدادي.
يقول المؤرشف محمد للمنصة: “تحول المركز الثقافي العراقي بعد أن كان مجرد مكان لإعطاء محاضرات تثقيفية إلى مكان يرتاده الناس بكثرة بعد افتتاح المتحف فيه.”
ويضيف قائلاً: “زيارة المتحف من قبل الفئات الكبيرة العمر تعد لحظات تنقيب في الذاكرة العراقية؛ منهم من يبكي حنينًا للماضي، ومنهم من يستعيد ذكريات الصبا الذهبية، فكأن ماضينا كان أجمل من حاضرنا.”
تُقدم هدايا للمتحف كمقتنيات قديمة وأثرية. على سبيل المثال، الفنان محمد السبع قدم كاميرا من فترة الثمانينيات، والأستاذ محمد جاسم الجميلي قدم بعض الصور القديمة لبغداد والمدن الأثرية، منها صورة لحلاق شارع الرشيد، وصور لمواقع أثرية، ومكحلة.
لدى المؤرشف علوان فكرة مستقبلية لعمل متحف للهدايا من الأفراد، بحيث يحمل كل مقتنى اسم صاحبه، وذلك لأرشفتها وتكريمًا لأصحابها الذين ساهموا في الحفاظ على تراث العراق ومقتنياته.
كما أسس المؤرشف “منظمة التراث والأرشفة” المعنية بالحفاظ على الآثار والتراث والمقتنيات والمباني التراثية في العراق، على الصعيدين الشخصي والوطني وهي منظمة تنشط بالعاصمة بغداد وجميع أنحاء العراق.
يقول المؤرشف حول إنجازات منظمته: “لقد أوقفت المنظمة تجاوزات على كنيسة الحكمة الإلهية وعملية هدمها وكذلك كنيسة السريان الكاثوليكية ومدرسة الراهبات ومعمل الجلود وضريح المتنبي وقصر الإمارة ومسجد الكوفة.” ويضيف “نحاول أيضًا القيام بأرشفة التراث رقميًا بدار الكتب والوثائق بيت الحكمة”.
يقوم محمد سيد علوان بحفظ المقتنيات وصيانتها بنفسه من دون أي دعم مادي، وقد عبر عن صعوبة هوايته وتكلفتها قائلاً للمنصة: “لقد عانيت مشكلة مع الأسرة بسبب بيعي لسيارتين شخصيتين لي، وليس هناك أي دعم من قبل الدولة لرعاية المتاحف الشخصية.”
من المبادرات الجميلة التي يقوم بها محمد وأعضاء منظمته هي النزول إلى شارع المتنبي بالأزياء التراثية وتعريف الناس بتاريخ وتراثهم القديم.
تقول الشابة العشرينية بيداء إبراهيم، التي تعد من رواد شارع المتنبي والمتحف: “هذا المتحف يرد على كل الأسئلة التي كانت في ذهني عن الحياة البغدادية السابقة وأضافت أيضًا أسئلة أخرى عن مدى روعة تلك الفترة الذهبية.”