عطّارات بغداد: صداقة، ذكريات، وعلاج من الطبيعة
فاطمة كريم – بغداد
في زاوية من زوايا سوق الكاظمية العتيق، تجلس أم جاسم، سيدة تجاوزت الخمسين من عمرها، بعباءتها العراقية السوداء التي تتألق ببساطتها، تحيط بها أعشاب عطرية وزيوت وأزهار مجففة من كل جانب وتستقبل الزبائن بملامح تفيض بالحكمة والهدوء.
السيدة التي تعمل في مهنة العطارة منذ أكثر من عشرين عاماً داخل سوق الكاظمية في شارع القبلة تقول: “أنا من مدينة الصدر وأتيت إلى هنا كل يوم منذ ما يقارب 20 عاما. لم أترك هذه المهنة أبدا، فهي تعني لي الكثير وعلمتني الكثير، وأهم ما تعلمته هو كيفية علاج أفراد عائلتي باستخدام المنتجات الطبيعية”.
مهنة العطارة من المهن القديمة التي ما زالت حاضرة في مختلف مناطق العراق يتوارثها الأبناء من الآباء والأجداد، كما انها ملاذ لكثير من محبي العطور الناس الذين يلجؤون إليها لاعتقادهم أنها خالية من المواد الكيميائية.
ترتب أم جاسم بضاعتها أمامها وكأنها كنوز تستحق الحماية، كل زجاجة عطر أمامها لها قصة عايشت تفاصيلها. تقول: “ما حفزني للعمل في هذه المهنة هو أن والدتي كانت على اطلاع واسع بالأعشاب وأهميتها. اكتسبت الخبرة منها، ومع الانخراط في سوق العمل زادت معرفتي في أنجع وأفضل الوصفات العشبية”.
وتضيف: “إن العطارة ليست بديلاً عن الدواء، ولا بد من مراجعة الطبيب عند الشعور بالمرض أو التعب. وعلى الرغم من النتائج المذهلة التي تحققها الأعشاب، إلا أن ذلك لا يعني الاعتماد عليها كلياً في التداوي أو العلاج”.
على بعد خطوات من أم جاسم، تجلس حمدية صالح، الملقبة بأم علي، وهي من سكان منطقة الكاظمية وفي الخامسة والستين من عمرها، وتعمل في المهنة ذاتها منذ 17 عاماً.
تجلس هنا لتبيع الحناء، ماء الورد، والخرز المستخدم لطرد الحسد، والمعروف بـ”سبعة عيون” بالإضافة إلى البخور والتوابل. تقول أم علي: “هذه المنتجات تمثل ما تعلمناه قديماً”.
كل صباح، تتقابل أم جاسم وأم علي لتناولا وجبة الفطور معاً. تفترشان الأرض أمامهما وتفتحان لفائف الخبز والشاي، ثم تتبادلان الحكايات. تقول أم علي بابتسامة يملؤها الحنين: “تذكرين يا أم جاسم أيام شبابنا؟ كنا نأتي إلى هذا المكان ونحن مليئات بالحياة… الآن نحن في المكان نفسه، لكنه يبدو مختلفاً”.
تجيبها أم جاسم وهي تعبث بحزمة من أعواد الدارسين: “يا أختي، الأيام تغيرت، لكن قلوبنا لم تتغير. ما زلنا نجلس هنا ونتحدث ونأكل معا، وكأن الزمن لم يمضِ علينا”.
بينما تتناثر ضحكاتهن، يثير حديثهن فضول المارة. يتناقلن القصص، ويتذكرن سنوات مضت على بدايتهن في بيع الأعشاب، وهن الآن يشاركن المعرفة والتجربة مع كل من يقترب منهما، حيث يشكل هذا المكان عائلتهن الثانية.
تقول أم علي: “أغلب الزبائن الذين يترددون علينا هم من النساء خصوصا كبار السن. يأتين لشراء الأعشاب، وبعض الفتيات يبحثن عن مستحضرات التجميل الطبيعية الخالية من المواد الكيميائية”.
اعتادت أم جاسم مراقبة الوجوه المألوفة بين زبائنها الدائمين. حين اقتربت منها إقبال لفته، ذات الخمسين عاماً، وهي إحدى زبائنها منذ سنوات، حيتّها أم جاسم بابتسامة ودودة وقالت: “أهلاً وسهلاً، ما طلبك اليوم؟” ردت إقبال وقد بدت في عينيها لهفة: “أريد الديرم يا أم جاسم. صار لي زمن أبحث عنه”.
الديرم هو نوع من الجذور يُستخدم تقليدياً في العناية بالجمال، ويُعرف أيضاً باسم “حب الكتم” أو “القَرَم”. تُطحن جذوره وتُستخدم كصبغة طبيعية تضفي لوناً أحمر على الشفاه، ويقال إنه يقوي اللثة ويحافظ على صحة الفم.
لبّت أم جاسم طلب إقبال ووضعت لها بعض أعواد الديرم في الكيس. ثم التفتت أم علي ممازحة: “سرقتِ زبائني بكلماتك الجميلة. منذ عرفتك وأنتِ مميزة بكلماتك وحكمتك”. ابتسمت إقبال وقالت: “عندما يمرض أحد أفراد عائلتي، أسرع إلى العلاج الطبيعي بالأعشاب والزيوت، لأنها أكثر صحة. كذلك، اعتدنا أنا وبناتي على وضع الحناء على الشعر كل يوم أربعاء. وأفضل الحناء هي التي توفرها أم جاسم من منطقة الفاو في البصرة”.
هكذا، تستقبل أم جاسم زبائنها بملامح تفيض بالحكمة، محاطة برائحة الأعشاب العطرية. حافظت على هذه المهنة التراثية التي تعكس تاريخ بغداد العريق. تناثرت حولها أكياس صغيرة مملوءة بالخلطات العشبية، وكأنها أجزاء من حكاية أصيلة تربط ماضي المدينة بحاضرها. ورغم التجاعيد التي حفرتها السنين على وجهها، إلا أن أم جاسم تحتفظ بعزيمة قوية وشغف كبير بمهنة ورثتها، وأبت إلا أن تواصل مزاولتها.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)