بين الضياع والنجاح: قصص الطلبة مع الدور الثالث ونظام الانتساب في العراق
المنصة- علا حارث
خمس سنوات أمضاها محمد مدين في محاولة اجتياز مرحلة السادس الإعدادي، خاض خلالها الامتحان الوزاري أكثر من عشر مرات قبل أن يتمكن أخيراً من النجاح عبر امتحان الدور الثالث. يعرف محمد بين أصدقائه بلقب “دي ماريا” لشغفه الكبير بكرة القدم، وهو الشغف الذي كان سبباً في تشتت تركيزه عن الدراسة وعدم انتظامه في الحضور المدرسي.
تبدو على محمد ملامح الندم وهو يروي قصته، متجنباً الحديث بتفاصيل كثيرة، وكأن الكلمات تحمل أعباء ماضٍ يتمنى لو يمحوه. يقول محمد بأسى: “خمس سنوات ليست قليلة، لقد سلبت من عمري وقتاً طويلاً كان يمكن أن أستثمره في إكمال حياتي الجامعية”.
استفاد محمد من نظامين استثنائيين ليتمكن من النجاح. الأول هو نظام “الدور الثالث”، وهو إجراء استثنائي يمنح للطلبة الذين لم يحققوا النجاح في امتحانات الدورين الأول والثاني، لتوفير فرصة إضافية لاجتياز العام الدراسي. بدأ العمل بهذا النظام في التسعينيات، واستخدم لاحقًا كحل مؤقت لتحسين نسب النجاح، لا سيما خلال فترة انتشار وباء كورونا. وفي العام الدراسي 2023-2024، أعادت الحكومة العراقية تفعيل هذا القرار بشروط محددة شملت طلبة الصف الثالث المتوسط والسادس الإعدادي.
أما النظام الثاني فهو “نظام الانتساب”، وهو الآخر ليس جديداً بل جزء من النظام التعليمي منذ عقود. يتيح هذا النظام للطلبة متابعة دراستهم من المنزل دون الالتزام بالدوام اليومي في المدرسة. وخلال جائحة كورونا، تم تفعيله بشكل أوسع لدعم الطلبة الذين يواجهون صعوبات في الحضور المنتظم بسبب الظروف الصحية. وفي تشرين الأول 2023، أعلنت وزارة التربية إعادة العمل بنظام الانتساب للعام الدراسي 2023-2024، مع استثناء تلاميذ الصفوف الثلاثة الأولى في المرحلة الابتدائية.
ورغم أن لهذين النظامين بعض الإيجابيات بحسب تربويين، إلا أنهما يواجهان انتقادات واسعة. إذ يُعتبر “الانتساب” عاملاً في خفض جودة التعليم، بينما يُنظر إلى “الدور الثالث” على أنه استجابة لضغوط شعبية أكثر من كونه حلاً جذرياً لتحسين التعليم.
تقول المشرفة التربوية هويدا عباس فاضل: “قرار الانتساب الذي أصدرته وزارة التربية العراقية كان في البداية مخصصاً للطلاب المصابين بأمراض تعيق دوامهم اليومي بناءً على تقارير طبية، وأيضاً لأبناء المبتعثين خارج العراق. لكن بعد جائحة كورونا، شمل القرار جميع الطلاب لتقليل الزخم في المدارس المكتظة”.
للأسف، هذا النظام جاء حصيلة ضغوط شعبية، فوزارة التربية تتعرض لضغوط من الطلاب وأولياء الأمور الذين ينظمون مظاهرات واعتصامات للمطالبة بإجراء امتحان الدور الثالث كي ينجح أبنائهم
وترى المشرفة التربوية أن نظام الانتساب يحمل جوانب إيجابية مثل منح الطلبة فرصة أخرى للنجاح، ولكنه أدى في الوقت ذاته إلى انخفاض المستوى العلمي للطلاب نتيجة ابتعادهم عن المدرسة وعن الاحتكاك المباشر بالمعلمين. وتضيف: “المدرس هو الأقدر على تقييم الطالب لأنه من يضع أسئلة الامتحانات، أما المدرسون في المعاهد الخاصة فيركّزون غالباً على الربح المادي. امتحانات الدور الثاني والثالث أصبحت ضرورية لكثير من الطلاب بسبب ضعف التحصيل العلمي الناتج عن الانتساب”.
يقول محمد الذي تملأ وجهه ملامح الندم: “أشعر وكأنني أضعت خمس سنوات من عمري في دائرة مغلقة من التردد والكسل”. كان يتجنب الحديث كأنّ الكلمات حبالٌ تشده إلى ماضٍ يتمنى لو ينساه. في السنة الرابعة، وصل محمد إلى مرحلة اليأس فاتجه إلى العمل سائقاً لسيارة أجرة، ثم في بائعاً في متجرٍ للملابس النسائية. كان ذلك بعد اتخاذه قرار الانتساب. يقول محمد: “انتابني الإحباط النفسي بشأن الدراسة، لذلك اتجهت إلى العمل”.
بعد عام من إهمال الدراسة، ظن محمد أن العمل قد يكون مخرجاً ينقذه من شعور الندم، لكنه وجد نفسه يتنقل بين وظائف مؤقتة بلا استقرار أو تقدير. يقول بصوت خافت ووجهه يحمل مزيجاً من الإحباط والانكسار: “كل مرة كنت أبدأ وظيفة جديدة أشعر وكأنها فرصة لإثبات نفسي، لكن الأمور لا تسير كما أتمنى”. عاد محمد إلى دراسته بعد معاناة مشقة العمل الخارجي، وعاد معه إصراره السابق لعبور هذه المرحلة، فتمكن أخيراً من النجاح عبر امتحان الدور الثالث.
بالنسبة لمختصين تربويين، فإن لنظام الانتساب جانبين إيجابي وسلبي. فمن جهة، ساعد في تقليل الزخم الطلابي في المدارس لكنه من جهة أخرى أدى إلى انخفاض مستوى الطلاب الدراسي بسبب التباين في مستوى التدريس بين معلمي المدرسة ومدرسي المعاهد، فضلًا عن أن معلم المدرسة هو المسؤول عن وضع أسئلة الامتحانات الشهرية والفصلية وليس المعاهد الخاصة.
أما نظام الدور الثالث، فتقول عنه المشرفة التربوية هويدا عباس: “للأسف، هذا النظام جاء حصيلة ضغوط شعبية، فوزارة التربية تتعرض لضغوط من الطلاب وأولياء الأمور الذين ينظمون مظاهرات واعتصامات للمطالبة بإجراء امتحان الدور الثالث كي ينجح أبنائهم، وهي ضغوط تشمل حملات إلكترونية ومظاهرات ميدانية وحتى ضغوطًا نيابية”.
حكاية محمد لا تختلف كثيراً عن قصة سجاد الذي أضاع ثلاث سنوات في مرحلة السادس الإعدادي، لكنه اجتاز السنة الأخيرة بمساعدة نظام الدور الثالث. يتذكر سجاد، وهو الآن في السنة الثانية من حياته الجامعية، تلك التجربة القاسية ويقول: “ثلاث سنوات من الإحباط والمحاولات الفاشلة، والإحساس بأني عالق بينما أصدقائي يمضون قدماً”.
وتوضح الباحثة التربوية شيماء حسين أن الطلاب يتعرضون لضغوط نفسية شديدة في المراحل الانتقالية الحاسمة من حياتهم التعليمية، مما يجعلهم أكثر عرضة لترك المدرسة أو للقلق والذعر عند دخول القاعات الامتحانية. تقول: “بعض الطلاب ينهارون نفسياً نتيجة توقعات الأهل والخوف من ردود الفعل على نتائجهم مما يؤدي إلى رسوبهم”.
من بين هؤلاء، علي رياض، الذي اتّبع نظام الانتساب خلال جائحة كورونا. يقول بابتسامة خفيفة: “كانت الدراسة عن بعد مثالية بالنسبة لي، إذ منحتني شعوراً بالراحة والسيطرة على وقتي”. لكنه يعترف بشيء من التردد: “رغم تلك الراحة، شعرت أحياناً بالعزلة وافتقدت التفاعل مع الزملاء والأساتذة”.
في النهاية، يصف علي تجربته بأنها درس قاسٍ علّمه أن “لا شيء يأتي بسهولة”، ورغم مرارة تلك الأيام، يشعر بالامتنان لأنه تمكن من تجاوزها أخيراً والالتحاق بالجامعة.