بالإبرة والخيط: نساء بغداديات يمنحن الأمل للأطفال المتعففين
مهدي غريب- بغداد
في بيت صغير بأطراف العاصمة بغداد الجنوبية، ترتفع أصوات ماكينات الخياطة، على خلاف باقي البيوت المجاورة التي تصحو وتغفو على أصوات الديكة.
أربع نساء من منطقة اللطيفية جنوب بغداد تطوعن لفتح مشغل خياطة مجاني للأطفال الأيتام والمحرومين. هذا البيت، رغم مساحته الصغيرة، تمكّن من تلبية احتياجات الأطفال المحرومين من زي المدرسة.
أم أحمد، وهي امرأة ستينية تعشق الخياطة، بدأت مشوارها مع “الإبرة والخيط”، كما تسميها، منذ أكثر من أربعين عاماً. حبها للخياطة وشغفها بالفصال دفعاها لفتح مشغل خاص في بيتها، لكن الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها أغلب العوائل في المنطقة دفعتها إلى تحويله إلى مشغل مجاني يلبي حاجات الأطفال والأمهات.
نحن هنا نحاول أن نوفر لأطفالهم زي المدرسة وأحياناً حقائب وأحذية، لنحافظ على مستقبلهم الدراسي
تقول أم أحمد، وهي تقيس أذرع إحدى الفتيات لتخيط لها زياً مدرسياً: “فكرة خياطة ملابس الدراسة مجاناً للأطفال ليست فقط لتلبية الاحتياجات الاقتصادية، بل لضمان استمرارهم في التعليم، حتى لا يقف الفقر حاجزاً أمام مستقبلهم”.
وتضيف: “في أقل من شهر، خيطنا نحو 300 زي مدرسي، ونحن الآن بصدد تجهيز المزيد لتلبية احتياجات الأطفال الملحّة”.
أم أحمد، التي يطلق عليها صديقاتها الخياطات لقب “امرأة الخيط”، استطاعت شراء أربع ماكينات خياطة على نفقتها الخاصة، بينما تكفلت العوائل الميسورة في الحي بتوفير الأقمشة ومستلزمات الخياطة.
الظروف الأمنية والاجتماعية التي مرت بها أطراف بغداد منذ عام 2003 وحتى 2014 أجبرت العديد من الأطفال على ترك الدراسة والنزول إلى سوق العمل بسبب فقدان الأب. هذه الأوضاع دفعت الأطفال في منطقة اللطيفية والمناطق المجاورة إلى التخلي عن أحلامهم الدراسية ومواجهة شبح الفقر على حساب طفولتهم.
لم تكن فكرة الخياطة المجانية للأطفال وليدة جهود أم أحمد وحدها، بل كانت ثمرة تعاون ثلاث نساء أخريات من الحي، لكنهن لم يملكن المال لشراء ماكينات الخياطة. إحدى هؤلاء النساء هي “أم حسن” (اسم مستعار)، خياطة ثلاثينية كانت من أوائل الداعيات لفتح المشغل المجاني بإمكانيات بسيطة.
تقول أم حسن، وهي تحاول إدخال الخيط في إبرة ماكنة الخياطة: “الكثير من الآباء في منطقتنا فقدوا حياتهم أو غُيبوا لأسباب أمنية وسياسية، ما جعل العوائل تعاني من فقر شديد. نحن هنا نحاول أن نوفر لأطفالهم زي المدرسة وأحياناً حقائب وأحذية، لنحافظ على مستقبلهم الدراسي”.
وتضيف “نخيط يومياً نحو 20 زي مدرسي، ونركز على البساطة في التصميم لتلبية احتياجات الأطفال بأسرع وقت”.
مع ساعات الصباح الأولى، تتوافد الأمهات والأطفال إلى المشغل لاستلام الملابس المكتملة. تمتزج أصوات ماكينات الخياطة بضحكات الأطفال وأحاديث الأمهات، لتخلق أجواءً من الفرح والامتنان.
تقول أم ياسر، أرملة وأم لطفلين، وهي تُزرّر قميص ابنها البكر: “بعد وفاة زوجي، أصبحت حياتنا صعبة جداً. هذا المشغل وفر لي الكثير من المصاريف وساعد أطفالي على الاستمرار في المدرسة”.
لم يقتصر دور المشغل على خياطة الملابس المدرسية، بل شمل أيضاً خياطة ملابس للنساء وذوي الاحتياجات الخاصة. كما افتتح دورات مجانية لتعليم النساء الخياطة، ما ساعد بعضهن على كسب قوت يومهن.
تقول أم أحمد، وهي تلملم الأقمشة الزائدة لإعادة تدويرها “هدفنا هو مساعدة الجميع. نخيط الملابس للنساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، ونوفر فرصاً لتعلم الخياطة ليكون مصدر رزق للنساء”.
في عام واحد فقط، خيطت أم أحمد وفريقها مئات الأزياء المدرسية للأطفال. في كل أسبوع من الموسم الدراسي، كانوا يجهزون أكثر من 100 زي، مما أسهم في سد حاجة أغلب الأطفال المتعففين في المنطقة.
بعد نجاح المشروع، بدأت عوائل ميسورة في التبرع بالأقمشة والأموال لضمان استمرار المشغل في خدمة الأطفال والعوائل المحتاجة.
مع انتهاء اليوم، تغلق أم أحمد ماكينات الخياطة وتجمع بقايا الأقمشة من على الطاولة الخشبية. ثم تهيئ المكان للغداء وتنادي خياطاتها الثلاث بصوت عالٍ “يلا بنات، صار الغدا!”.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)