“الحياة بلا أطراف” قصة تحدي لأم وابنتها واجهن الحياة يدا بيد
المنصة – مرتضى الحدود
حينما انجبت ريام خلدون (28 عاما) ثلاثة أطفال معافين لم تكن تعلم أن القدر يخبئ لها قصة مغايرة مع طفلتها الرابعة “رحمة” التي ولدت بلا أطراف لتعيش مع والدتها قصة كفاح مشتركة يواجهان من خلالها الحياة يدا بيد.
في منزلها البسيط تجلس الأم إلى جانب رحمة ابنتها التي تجاوزت ربيعها السادس وهي تحتضن طاولة صغيرة أمامها كي تساعد ابنتها على مراجعة دروسها بعدما وافقت احدى المدارس على قبول الطفلة بعد رحلة استمرت أيام زارت فيها الام عشر مدارس مختلفة جميعها رفضت استقبال رحمة، وفجأة وافقت واحدة منها على انضمامها الى طلابها.
“تلقيت علاجا قويا لأربعة أشهر بعد تشخيص خاطئ لحالتي فقد أبلغوني ان هناك ورما في الرحم وبعد انتهاء العلاج اكتشفوا انني حامل وان التشخيص كان خاطئا وفي الشهر الثامن للحمل فقط ابلغتني الطبيبة ان طفلتي ستولد بلا أطراف” تقول ريام وهي تعود بذاكرتها الى اصل الحكاية التي تسببت في ولادة طفلتها المعاقة.
في كانون الثاني 2019 ابصرت رحمة النور، كانت عائلتها اختارت اسم “زهراء” خلال فترة الحمل لكن ريام شعرت أن اسم “رحمة” هو الاجمل لابنتها التي اعتبرتها هدية سماوية فيما اطلقت عليها جدتها اسم “رحمة الله”.
منذ تلك اللحظة أصبحت “رحمة الله” محطّ الاهتمام والحب في العائلة فكان الأخوة والاب يتسابقون في تقديم الدعم والرعاية لهذه الطفلة الصغيرة، التي أصبحت رمزًا للأمل رغم التحديات الجسدية رحمة تملأ الأرجاء بضحكتها وإرادتها، وتعلم الجميع أن الأمل ليس مجرد كلمة، بل هو حقيقة عميقة تنبثق من داخلنا، مهما كانت الظروف.
ريام لا تسمح لابنتها رحمة أن تشعر للحظة بأنها عبء على أحد، فرعايتها لابنتها الصغيرة تفوق التصور وهي تحاول ابقائها بعيدة عن أي فكرة قد تُشعرها بالضعف أو العجز حيث تبدأ معها يومها منذ انبثاق الضوء ولا تتركها حتى ترسلها الى فراشها الدافئ ليلا.
حينما بلغت رحمة خمس سنوات بدأ الإصرار يظهر في عيونها الصغيرة، كانت تشاهد إخوتها وهم يتهيؤون للذهاب إلى المدرسة فبدأت تطلب بصوتٍ عال أن تلتحق بهم، وأن تكون جزءًا من عالمهم وعدتها الأم في تلك اللحظة بأنها ستحقق لها هذا الحلم عندما يحين الوقت وقد حان بالفعل قبل ثلاثة اشهر حينما حملت الام طفلتها بين ذراعيها وتجولت بين المدارس باحثة عن مكان للتدريس.
“قالوا لي انهم لا يملكون صفوفا خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة لذلك رفضوها جميعا ولم يقبلها احد فعدت ادراجي بعد يأس قبل ان تخطر على بالي فكرة أخرى” تقول الام واصفة رحلة البحث عن مدرسة.
في لحظة يأس قررت ريام أن ترفع صوتها فكتبت نداء عبر صفحتها في منصة التيك توك التي انشاتها لابنتها باسم “الحياة بلا أطراف” موجهة إلى وزارة التربية، تُعلن عن عزمها تقديم شكوى إلى مدير التربية في محافظة ذي قار جنوب العراق التي تقطنها مع عائلتها إذا لم يتم قبول ابنتها وفي صباح اليوم التالي قبل أن تتوجه إلى المديرية جاء الاتصال المنتظر كانت مديرة مدرسة “الغسق الابتدائية” الحكومية على الخط، تعلن لها أن أبواب مدرستها مفتوحة أمام رحمة وأن لديها صفًا خاصًا لذوي الاحتياجات الخاصة وأنها ستكون في أمان وحب في مدرستها الجديدة.
لم يمض وقت طويل حتى تلقت ريام اتصالاً آخر من مكتب وزير التربية يطلب منها اختيار أي مدرسة ترغب مؤكداً لها أنه سيتم قبول رحمة دون تردد ومع ذلك، قررت الأم أن تظل مخلصة لطلب مديرة مدرسة الغسق، التي رحبت بها وأعطتها كل اهتمامها وحبها.
منذ ذلك اليوم، أصبحت ريام ترافق ابنتها يوميا إلى المدرسة لا تفارقها لحظة واحدة تظل بجانبها طوال اليوم تلبية لاحتياجاتها وتتابع دروسها عن كثب، من الحروف الأولى إلى دروس الحياة ولقد كانت النتيجة مفاجئة، فبعد جهد واهتمام، حصلت رحمة على لقب “الطالبة المثالية”، وعلقت شارة هذا التميز على صدرها بفخر.
“لم تفارق الابتسامة وجه رحمة ووالدتها رغم التحديات، بل على العكس، وتقول الام “هذه الفتاة غمرتنا بالسعادة” وفي سبيل رعاية رحمة، خصصت الأم ميزانية يومية تبلغ حوالي 12 ألف ديناراي قرابة (ثمانية دولارات) ، تشمل أجور النقل والمصروف اليومي للطفلة، مؤمنةً بأن كل لحظة من الاهتمام والعناية التي تقدمها هي لحظة ثمينة في حياة ابنتها.
من شدة حبها للتعلم، أصبحت رحمة تمسك القلم بفمها في محاولة منها للكتابة والتفاعل مع دروسها لكن هذه المحاولة تسببت لها في التهابات مؤلمة، مما أدى إلى حرمانها من الطعام لعدة أيام، حتى تم معالجتها ورغم الألم الذي تحملته، لم تتوقف رحمة عن مسعاها في التعليم، فعادت لتمسك بالقلم بفمها مجددًا.
هدى حسين المعلمة في مدرسة رحمة تقول عن الطفلة انها “اثبتت منذ اللحظة الأولى امتلاكها استيعابًا جيدًا وهي تتلقى دعمًا مستمرا لتتمكن من تطوير نفسها في الكتابة والقراء” وتضيف “نترك الخيار لرحمة في كيفية الكتابة، سواء كان ذلك باستخدام القلم على الدفتر أو على الصبورة بالإضافة إلى ذلك، تتمتع رحمة بفهم ممتاز للطريقة الصحيحة للهجاء”.
في قصة “رحمة” تتحدى الإرادة المستحيل ويتجسد الامل في قلب أمّ لا تعرف الاستسلام، إذ ان رحمة التي ولدت بلا اطراف تزرع الأمل في قلوب كل من يعرفها هي وأمها وهي مثال حي على أن الحياة لا تقاس بما نملكه، بل بما نُقدّر من عزيمة في مواجهة الصعاب.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)