أسماء: فلاحة عراقية تحوّل تحديات المناخ إلى فرص للحياة
المنصة – فاطمة كريم
في احضان الحقول الواسعة حيث تختلط رائحة التراب المبلل بأصوات الطبيعة، كانت أسماء تنحني بخفة، تحمل مجرفة الأرض بحزم، وتغرسها في التربة كمن يعانق حلمًا طال انتظاره. يديها المتشققتان، الموشومتان بأثر الشمس والتراب، تتحركان بحب وإصرار وهي تجمع السنابل التي كبرت تحت رعايتها.
أسماء حسين شابة ثلاثينية تسكن في منطقة التاجيات التي تبعد (40 ) كيلو متر عن مركز مدينة بغداد، عملت أسماء منذ طفولتها في الحقول الزراعية وهي تتذكر طفولتها بفستانها الزهري حينما كانت تسير خلف والدتها حاملة في يدها الصغيرين بعض الثمار التي جنتها من بستانهم، تقول أسماء “تعلمت من والدتي كل المهارات الزراعية فقد كنت استيقظ معها في الصباح الباكر ونقوم بالأعمال مع بعضنا”
نشأت أسماء في بيئة زراعية بسيطة، حيث كانت الأرض هي الملاذ والعمل اليومي. تعلمت أسرار الزراعة من والدتها منذ الصغر، فأصبحت الأرض جزءًا من هويتها. ورغم صعوبة العمل، لم تتخلَّ أسماء عن دراستها؛ كانت تحرص على التوازن بين حياتها كطالبة وبين واجباتها في الحقل، تزرع الأمل في تربتها كما كانت تغرسه في نفسها.
اختارت أسماء دراسة اللغة الإنجليزية وأصبحت معلمة بعد تخرجها. لكنها لم تجد نفسها في قاعات التدريس مثلما وجدتها في حقول الزراعة تقول أسماء “رغم حبي القاعات التدريس وضجة الأطفال في الصفوف لكني لم أستطع اتخلى عن الأرض فأنا مرتبطة بها ارتباط روحي فقررت ان أكمل عملي كفلاحة والحافظ على أرضي في زمن أصبح التجريف اسهل ما يكون عند البعض”.
شهدت منطقة التاجيات تجريف عدد كبير من أراضيها بسبب التغيرات المناخية التي مرت بها المنطقة من قلة المياه وانتشار الاوبئة وارتفاع درجات الحرارة، اضطر معظم الفلاحين إلى تجريف أراضيهم وتحويلها إلى سكنية، لكن أسماء كان لها رأي آخر فقد حاولت دائما أن تتفادى المشاكل التي تواهها بحلول أخرى للحفاظ على أرضها.
وتقول أسماء “الزراعة في السنوات السابقة كانت أفضل بكثير من اليوم، فقد كانت المياه متوفرة وكذلك الاسمدة وكنا نحصل عليها من الحكومة وهناك اهتمام جيد بالفلاح اما الان كل شيء اصبح صعب وجميع الاعباء تركت على عاتقنه من توفير المياه وشراء الاسمدة الغالية وغيرها”.
مع تغير الظروف المناخية في العراق، وجدت أسماء نفسها أمام واقع جديد يهدد الحقول التي طالما أحببتها، الحرارة المتزايدة، وشح المياه، وضعف إنتاج التربة، كانت تحديات قاسية تواجهها يوميًا لكنها لم تستسلم للصعوبات، بل رأت في التحدي فرصة للتجديد.
لامست الاضرار أرض أسماء ومن حولها من الفلاحين والفلاحات وكانت أسماء دائما تسعى إلى حلول أخرى، فقد غيرت طريقة زراعتها ونوعية المحصول الذي تزرعه محاولة ان تنتج أفضل ما لديها، تتحدث قائلة” خسرنا مرات عدة في بعض المحاصيل التي نزرعها لكن مع مرور الوقت أصبحت ابحث عن أنواع أشجار أخرى تتلاءم مع التغيرات المناخية، فزرعت الزيتون والنخيل والرمان”
بدأت أسماء رحلة بحث بسيطة لكنها مليئة بالأمل استشارت خلالها الفلاحين المجاورين واطلعت على تجارب زراعية نجحت في ظروف مشابهة، واكتشفت أن زراعة أشجار تتحمل الجفاف والحرارة قد تكون الحل فوقع اختيارها على الزيتون والنخيل والرمان فهي أشجار تجمع بين القدرة على التكيف والإنتاجية العالية.
استقطعت أسماء مساحة صغيرة من أرضها المخصصة للزراعة التقليدية وبدأت بزراعة أشجار الزيتون التي تحتاج إلى كميات قليلة من المياه، تبعتها بالنخيل المعروف بتحمله للظروف الصعبة، ثم أضافت شجيرات الرمان التي وجدت في التربة العراقية ملاذًا خصبًا.
كانت التجربة مغامرة لكنها بالنسبة لأسماء كانت خطوة ضرورية لحماية مستقبل الأرض، وتقول “زوجي كان الداعم دائما الذي ساعدني دائما في الأرض وزراعتها وكان يشاركني بعض الأفكار من أجل حصاد تعبنا،” ثم تبتسم وتنضر له مواصلة حديثها “وافقت ان اتزوج منك لأنك فلاح وتحب الأرض مثلي تماما”.
المتنبي زوج أسماء والملقب بـ “ابو منير” وهو يكون زوج أسماء، درس في كلية القانون لكن لم يجد فرصته في الوظيفة فأستمر بعمله كفلاح لانه سبق وتربى وسط حقول عائلته، يقول المتنبي “لسنوات عديدة نحن اضطرينا إلى زراعة الجت والبرسيم والحنطة ثم قررت أسماء ان نخوض تجربة زراعة محاصيل جديدة في جزء من الأرض”
تتعاون أسماء مع زوجها في العمل وكل واحد منهم يكمل الآخر في تنفيذ المهام، بينما يستيقظ المتنبي صباحا ويذهب إلى مركز المدينة بحثا عن فرصة عمل له ليستطيع ان يقوم بواجباته في الظروف الاقتصادية الصعبة، وبعد رجوعة يقوم بتشغيل دراجته ويذهب مع أسماء واطفالهم الصغار إلى الأرض ليحصدو ما زرعوه.
يركض الأطفال وسط الحقول فيما تنشغل أسماء بجمع المحصول ليذهب بعدها المتنبي إلى تسويقها يقول “في فصل الشتاء لا نخرج في الصباح إلى المزرعة بسبب وجود المياه على المحاصيل، ننتظر إلى المساء حتى تشرق الشمس وتمتص الأرض المياه ثم نذهب لحصادها”.
تستيقظ أسماء صباحا وتعد الطعام لزوجها واطفالها، ثم تخرج إلى رعاية ابقارها وتقديم الطعام لهن وايضا تقوم بحلب الحيوانات لصنع بعض المنتجات البسيطة لعائلتها، تقول أسماء “كنت امتلك عدد من الجواميس واصنع من الحليب بعض المنتجات مثل القيمر والجبن والزبدة، ثم اقوم ببيعة داخل السوق، لكن بسبب شحة المياه قمنا ببيع الجاموس واستبدلناه بالابقار”.
لم تكن أسماء لتستسلم، بل كانت تُعرف بقدرتها على إيجاد حلول مبتكرة لكل عقبة تعترض طريقها واجهت تحديات قاسية في أرضها وحيواناتها، تراجعت إنتاجية التربة، وبدأت مواسم الجفاف تؤثر على الماشية لكنها، كعادتها لم تنتظر المساعدة من أحد.
قررت أسماء تعديل طرقها التقليدية لتلائم الظروف الجديدة، واستبدلت كل طريقة لم تعد مناسبة للظروف المناخية وظروفها الشخصية إلى طريقة أخرى أكثر نجاحا وهنا نرى الإصرار والقوة كيف اجتمعت في يدها التي نمت بين اتربة الحقول.
مع آخر خيوط الشمس التي تغيب خلف الأفق تقف أسماء بين الزرع الذي نما بفضلها والأشجار التي زرعتها لتتحدى المناخ، تبدو أسماء كأنها جزء من هذا المشهد الأبدي. كل نبضة حياة في الحقل تحمل بصمة يديها، وكل شجرة تنمو تحمل وعدها للأرض: “سأظل هنا، أزرع، أحصد، وأحلم ”
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)