من قلب الأهوار: أم حيدر تتحدى الجفاف وتستعد لموسم “الخريط”

 

المنصة – مرتضى الحدود

 

في فجر كل يوم ومع بزوغ أول خيوط الشمس على مياه الأهوار في الجبايش بمحافظة ذي قار جنوب العراق، تبدأ أم حيدر المرأة الخمسينية ذات رحلتها اليومية للحصول على رزق يومها ومواجهة التحديات البيئية والاقتصادية التي اثرت على بيئتها.

تغطي ام حيدر رأسها بلباس سومري قديم يسمى محليا “الشيلة” وتلف على وسط جسدها عباءتها السوداء بطريقة جنوبية ثم تلبس الجوارب السميكة لحماية اقدامها من شجيرات القصب الحادة، قبل ان تنطلق مع زوجها في زورقهم الصغير بحثا عن رزقها في الطبيعة.

“انه رفيق الحياة الذي لا يفارقني في رحلتنا اليومية بحثا عن الطيور والاسماك التي نصطادها لنعتاش بها ونعود برزقنا في آخر النهار مع كمية من القصب التي قطعناها في طريق رحلتنا” تقول ام حيدر.

تواجه الاهوار اليوم خطرا كبيرا بعدما شحت السماء في العراق بأمطارها هذا الشتاء ايضا فقلة المياه وشحة الامطار باتت تهدد استدامتها وقد تفقد مكانتها العالمية على لائحة التراث العالمي إضافة إلى هجرة السكان المحليين وقلة الطيور المهاجرة التي كانت تمثل جزءًا من حياتها الطبيعية وقد سجلت محافظة ذي قار نزوح أكثر من (52) ألف شخص خلال السنوات الخمس الماضية، ما يجعل الأهوار في وضع صعب وغير ملائمة للسكن أو تربية الحيوانات في حال استمرار الظروف القاسية لسنوات لاحقة.

التحديات التي تفرضها الظروف الحالية لم تكسر صمود أم حيدر فهي متفائلة ومستمرة في الاستعداد لفصل الربيع المقبل ففي هذا الفصل يصبح جمع زهرة البردي او كما يسميه سكان الجنوب “الخريط” مصدرا ماليا مهما لها ولأسرتها، مقارنةً ببقية مصادر رزقها إذ تصنع منه حلوى تقليدية تعود أصولها الى العصور السومرية.

يعود تاريخ حلوى الخريط المصنوعة من زهرة البردي إلى أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، ويتم تحضيره من نبات “البردي”، الذي يزدهر في أعماق الأهوار ورغم أن ثمار البردي تشبه مادة الدقيق بعد تجفيفها، إلا أنها ليست مجرد نبات عادي، بل تعد مصدر رزق ثمين لقاطني الهور إذ تضاهي قيمتها ضعف ما تكسبه العائلات هماك من بيع الطيور والأسماك، وتستخدم المادة كعلاج طبيعي فعّال لمشاكل الجهاز الهضمي ايضا، مما يجعلها أحد المصادر الحيوية التي تعتمد عليها أم حيدر في جني رزقها.

تجمع أم حيدر المواد المستخلصة من نبات البردي بعناية وتضعها داخل قطعة قماش شفافة لتنقيتها، حيث تفصل البذور الكبيرة عن الذرات الناعمة ثم تجمع هذه الذرات الناعمة بقطعة قماش باحكام وتوضع في قدر مملوء بالماء دون ان تلامسه وتُوقد النار تحته باستخدام “المطال” وهو وقود محلي مكون من فضلات الحيوانات.

مع مرور الوقت يرتفع البخار ليتخلل من خلال مسحوق الخريط ليبدأ مرحلة جديدة من التمازج تدريجيًا ويأخذ شكله النهائي وما ان يجف القدر ويتبخر الماء كليا تقريبا يترك المسحوق ليجف ويتماسك ليكون قطعة واحدة ثم يتم تقطيعه لاحقا حيث يصل سعر الكيلو غرام الواحد من الخريط إلى 20 ألف دينار خلال موسم اعداده ومع انتهاء الموسم يرتفع السعر ليصل إلى 100 ألف دينار للكيلو الواحد وهو يعادل ما تجنيه عائلة اهوارية من صيد السمك والطيور في أسبوع كامل.

تؤكد تقارير الأمم المتحدة حول نساء الاهوار ان دور المرأة في المجتمع الاهواري تختلف في عملها اليومي ومساهمتها في تطوير الاسرة عن النساء في المجتمع الريفي والمجتمع الحضري اذ ان المرأة في الاهوار تساهم كالرجل في الذهاب الى الهور بشكل يومي من اجل قطع القصب وتجميعه واستخدامه كعلف للجاموس كما وتقوم بتحضير الحليب ومشتقاته من الجاموس ومراعاة القطيع فضلا عن تربية الاطفال والاهتمام بشؤون الاسرة.

وتشير التقارير ذاتها ان عمل المرأة الأهوارية اليومي هو عمل شاق جدا في ظل ظروف تطرف المناخ العراقي المعتاد اذ انه حار جاف صيفا وبارد ممطر شتاءا، ومع تزايد آثار تغير المناخ السلبية، أصبح من الواضح أن النساء في منطقة الأهوار هن أول من يعاني من شحة المياه بسبب التغيرات المناخية وارتفاع درجات الجرارة، حيث يؤثر الجفاف على الجاموس الذي يقمن بتربيته مما يضطرهن الى البحث عن المياه في أماكن بعيدة عن المناطق التي يقطن فيها.

الحياة في اهوار ام حيدر لم تعد كما كانت قبل سنوات خلت فالتغيرات المناخية التي تعصف بالمنطقة، وتراجع المياه بسبب سياسات دول الجوار الجغرافي للعراق فضلا عن تراجع سقوط الامطار جعلت الحياة أكثر صعوبة في هذه البيئة المهددة بالانقراض.

التغيرات لم تترك فرصة لأي شخص هناك سوى خيارين اما الهرب من بيئته والتكيف مع حياة جديدة لا يعرف عنها شيئا او الاندفاع بمزيد من الاجتهاد والعمل للبحث عن حلول بديلة، والتكيف مع الأوضاع الجديدة.

ام حيدر واحدة من نساء قليلات مازالت تسعى للتكيف والحفاظ على ابتسامتها التي لا تفارق وجهها، لتظل رمزًا للصبر والعزيمة في مجتمعها رغم الصعوبات فهي تحتفظ بتفاؤل عجيب وتبذل ما في وسعها لتأمين حياة أفضل لها ولأسرتها، وفي نهاية كل يوم عندما تهبط الشمس نحو مخبأها في صوب الغروب تعود بزورقها الى منزلها محملة برزق تقتنع به مهما كان ضئيلا.

 

أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى